عبَرَ المُنْخَفَضُ الجويُّ المُتباهي بأصولِهِ القطبيَّةِ العريقَةِ، الأجواءَ منذ يومين، وما يزالُ زائراً يتصرَّفُ بأريحيَّةِ الضيفِ في اليومِ الثالث، فأفرغَ حمولته من الماء النقيِّ والقطن الأبيض، منذ دخوله المملكة من ناحية الشمال حتى “امتدَّ تدريجيا إلى باقي المناطق“؛ كما تابَعَ سيره بحماسه المعهود السيد مدير الأرصاد الجوية، الذي حرصَ على تقديم “النشرة” بنفسه كلَّ كذا لترا من الماءِ!
“الجو جميل“..، ومثاليٌّ كذلك لدى جميع الأطراف: الحكومة من جهتها أبدت ارتياحاً مُضْمَراً لتعطل بعض أشكال الحياة، خصوصاً السيرَ البطيء من المسجد “الحسيني” إلى “ساحة النخيل“، ذلك الذي يحرصُ عليه بعد صلاة الجمعة نشطاء الحراكِ الشعبيِّ..؛
فكلُّ أسبوع تخشى الحكومة أنْ يتواصَلَ ارتفاعُ السقف، لكنَّها هذه المرة تبدو مطمئنة أنَّ ذلك لن يحدث بسبب الغيوم الملامسة لسطح الأرض!وقد تكونُ “الأحوالُ الجوية السائدة” التي يبشِّرُ بسوئها الراصدُ الجويُّ غير المحايدِ سياسياً، مناسبَةً لـ “استراحة المحاربين” الذين سيتنصلونَ أيضاً من “الحراكِ الاجتماعي” الإلزاميِّ في يوم الجمعة، ويمارسونَ فرحاً اضطرارياً، قد يأخذُ شكلَ ترحاب أخويٍّ بتلقي ضربات كرات الثلج من الأطفال المبتهجين بأنَّ الحياة، منذُ ثلاثة أيام، استثنائية في غيابِ الدوام المدرسيِّ..، وكلُّ شيء تعطَّلَ كالمعتاد، بمجرَّدِ أنْ بدأ التلفزيون الأردني ببثِّ الأغنيات التي تحاولُ إقناعَ المواطنين أنَّ “الجو جميل وشاعري“! “طوارئ” والشاشة الفضية لا تكفُّ عن إعطاء الأرقام للمساعدة “في حالات الضرورة القصوى“، كأنْ يتأخَّرَ الولَدُ القصير في طابور المخبز الطويل، أو يظنَّ الذي تجاوَزَ سنَّ الرضاعة أنَّ الثلجَ نوعُ الغذاء التالي له، أو يصابَ الأبُ بإجهادٍ بالغ أثناء تواريه لطلب الدفء، أو يُصدقَ الذي لن يُفشي سرَّ أبيه موعداً “قبل الوقت وقبل الحب” تخيَّله في أغنية “السيدة فيروز” الحميمية “تحت الشتي“؛ فيذهبُ إليه مبكراً، ويكونُ من واجب المناوبينَ في لحظات الطوارئ إيصال حبيبته إلى الخلوة الآمنة!ثلاثة أيام والشمس في إجازتها السنوية في موعدها المعتاد، والنجوم والشكل التدريجي للقمر تواروا فاستراحوا من الدور النمطيِّ في كتابات العشاق الأولى.
الشوارع مكتظة بالسيارات التي خرجت دفعة واحدة لـ“الضرورة القصوى“، ويتعاظم الازدحام باختبار “الطرق السالكة بصعوبة“، وتلك التي تتدنَّى فيها “الرؤية الأفقية“! ثلاثة أيام وعلى الأرصفة ثمة طقوس ثابتة: غلامٌ يكتبُ كلاماً سوقياً بواسطة ضباب زجاج سيارة الجار التقي، متسولةٌ تشربُ العدسَ بكوب بلاستيكي مقوَّى كصدقة جارية، امرأةٌ وقورَةٌ تتعثرُ على درج مهترئ فيتفقَّدُ المارةُ نخوَتهم، رجلٌ يرتدي كلَّ احتياطاته من الصوف والجلد غير الطبيعي..، وأشياء أخرى كالمعتاد: سيارة كورية الصنع تعطلت في منتصف الشارع، عاشقٌ مُتعَبٌ ينفثُ بخارَ فمه ودمعه مع دخان السيجارة، امرأةٌ ما تنتظر ما تعرفُ أنَّه ليسَ مخبأ تحت الثلج!..
وغداً سيذوبُ الثلجُ، ويختفي مدير الأرصاد الجوية، حين يعودُ المنخفضُ الجويُّ بكامل عمقه إلى “قبرص“. ستعودُ الحياة إلى مجراها، فيرتفعُ الهتاف من جديد، ويستغلُّ خلوَّ السماء من الغيوم، ويعلو وجوه الناس شيء من الحزن يبدو في هيئته المحلية كأنَّه فرحٌ مصابٌ بالكآبة؛ فالحبُّ سينتهي بـ “تاني شتي“، والثلج لن يُشبِعَ الطفل الذي أنهى الفطام. إلا أنَّ الغلامَ السوقيَّ، ومتسولة العدس، والمرأة المنتظرَة، والوقورَة، وصاحب السيارة الكورية، والعاشق الخائب..، كلهم سيخرجون مجدَّداً إلى الطرق التي تدنَّت فيها “الرؤية الأفقية“، ويُغنونَ من بعد اقتناع:”الجو جميل وشاعري“!
الغد