يبدأ الإصلاح بمراجعة الرواية المنشئة للأزمة.
وهي بتقديري، وكما عرضت في المقالات الثلاث السابقة، متصلة بالاعتساف والافتعال في تنظيم وإعادة توزيع التأثير والموارد، وفي صياغة المجتمعات والمؤسسات الوطنية والمدن والأسواق على نحو يؤدي حتما إلى الأزمة، وأخيرا بسبب الخلل الكبير في إدارة وتوزيع العبء الضريبي وقدرة المجتمعات والطبقات الوسطى على إسماع صوتها والمشاركة في التخطيط والقرار.
كيف تكون المجتمعات شريكا في الموارد والتنمية والمسؤولية؟ كيف توضع السوق في مكانها الصحيح المنشئ للتقدم؟ كيف تتشكل القيادات الاجتماعية والاقتصادية على نحو تفاعلي وتنافسي طبيعي وعادل؟
ما يجري من حراك سياسي واجتماعي في الأردن يمكن وصفه بأنه إصرار الطبقات والمجتمعات التي لم يكن يسمع صوتها على إسماع صوتها، وأن تغير من قواعد العمل، وأن تكون هي الشريك السياسي والاجتماعي والاقتصادي، من خلال عمليات تمثيل جديدة مختلفة عما درجت عليه ديناميات تشكل النخب والنقابات والبلديات والنواب والأعيان والوزراء والمديرين والسفراء، وإعادة توزيع الموارد العامة على نحو مختلف تماما أيضا، سواء في الإنفاق العام أو في إصلاح وتعديل العقود والعطاءات مع الدولة، وإعادة النظر في عمليات الخصخصة ودور الشركات في السوق وفي السياسة
.ستكون النتيجة التلقائية لهذه المراجعة تمكين المجتمعات، وإعادة دورها وتأهيلها لتكون قادرة اقتصاديا وفنيا على امتلاك وإدارة وتنظيم مجموعة من الخدمات الأساسية؛ المياه والكهرباء، وتنظيم المدن والأحياء، وإنتاج وتسويق السلع الأساسية، والتعليم الأساسي، والثقافة والرياضة والمساجد والكنائس والحدائق والمكتبات العامة، وإعادة توزيع العبء الضريبي وتوزيع الإنفاق وعدالة التوزيع، وألا تكون المجتمعات والطبقات الوسطى والفقيرة هي الحلقة الأضعف في تحمل العبء الضريبي، وفي حصتها من الإنفاق العام.
فالحكومة تجمع ضريبة المبيعات بكفاءة عالية وبنسبة عالية أيضا على السلع، وفي المحصلة فإن مصدر هذه الضرائب التي تشكل اليوم الجزء الرئيسي من الإيرادات الضريبية هي الطبقة الوسطى، ولكن الحكومة لا تواجه التهرب الضريبي بالكفاءة نفسها، وتمنح إعفاءات ضريبية واسعة يستفيد منها الأغنياء فقط.
والأسوأ من ذلك كله أن اتجاهات الإنفاق وتوزيعه يذهب معظمها للأغنياء أيضا، وهذا غير طبيعي في التاريخ والجغرافيا.
الجزء الأصعب من الإصلاح هو نشوء طبقة جديدة من القادة والنخب، مرتبطة بالإصلاح وليس بالفساد.
وأصعب من ذلك كله أن الإصلاح الاجتماعي في جوهره هو طبقة تحل محل طبقة أخرى؛ إنه تبادل قاس ومؤلم للتأثير والنفوذ. سوف ترحل فئة من الناس لم يكن يخطر ببالها أبدا أنها سوف ترحل؛ لقد ورثت مواقعها وراثة، وحصل الكثير من قادتها على مواقعهم هدية من الآباء والأصهار في عيد ميلادهم التاسع والعشرين، أو تعويضا عن فشلهم في القطاع الخاص، أو لأنهم بددوا مصالح آبائهم وعائلاتهم، وهم في الوقت نفسه أنشؤوا لأنفسهم أسلوبا في الحياة والإنفاق لا يقدرون على الوفاء به إلا في ظل امتيازات ومكاسب أكبر مما تتيحه الوسائل المشروعة
. لقد أصبح الفساد منظومة اقتصادية واجتماعية تقوم عليه مصالح والتزامات وعلاقات لا يمكن تفكيكها بقرارات أو تشريعات إصلاحية
. يجب أن نعترف أن الإصلاح لن يكون إلا محصلة لصراع اجتماعي وسياسي معقد وطويل.
الغد