في خضم ما يطوف في الوطن العربي من حراك أو ربيع، دخل هذا الوطن في متاهتين؛ أولاهما حالة من الفوضى عمّت كل دول الربيع، حتى تونس التي يستشهد بها البعض على أنها قد حققت إنجازاً متميزاً، فإنها تعيش في غموض وارتباك سببه الانفصام في المفاهيم، خاصة عدم القدرة على الوصول إلى تفاهمات وحلول للتناقضات أو المناكفات القائمة بين فن إدارة الحزب وفن إدارة الدولة، من جهة، وبين الاضطراب الذي خلقه ضعف مستويات الخبرة في قيادة الدولة، من جهة ثانية، والخوف من أن تطول ازدواجية الرؤية هذه، بحيث تصبح مقدرات البلاد في يد التنازعات السياسية والفكرية والعقائدية.
أمّا ثانية المتاهتين، وفيها يكمن خطر يهدد المصير الكامل للأمة والوطن، فهي ذلك الدخول في غيبوبة عربية تامة بخصوص ما يجري على الساحة العربية – الإسرائيلية. فالاستيطان استعاد زخمه، وإسرائيل راحت تهدد السلطة الفلسطينية بصورة مباشرة، مُنكرة عليها إقامة أي نوع من التصالح مع حماس، ومعتبرة أن هذا التقارب وحل الخلافات الفلسطينية إنما يعني نكوص السلطة عن العملية السلمية. وهذا أمر ليس غريباً فقط، بل هو مثير للدهشة أيضاً، حيث أنه يشير إلى مستوى العهد السياسي والعسكري والاستراتيجي الذي وصلت إليه إسرائيل والذي راحت تعاملنا بموجبه، وما يمثله من خطر يجب أن لا نغفل عنه ونحن منخرطون في الربيع العربي. أما ثالثة الأثافي فهي تلك الدعوة الخطيرة التي أعاد إطلاقها نتنياهو والمتعلقة بمفهوم «يهودية» الدولة وضرورة اعتراف الفلسطينيين والعرب به كشرط أساسي لحل القضية برمتها.
إن مفهوم يهودية الدولة يجب أن يُدرك من داخل المشروع الاستراتيجي الإسرائيلي الذي ينفّذ على مراحل، بدأت بعد نشوء الكيان الصهيوني بخمسة أعوام فقط، وذلك عندما أُتخذ قرار يقول بأن لكل إسرائيلي، أينما وجد، حقاً في «دولة إسرائيل». واستمرت الأطياف السياسية الإسرائيلية، دون استثناء، بالتسابق لتأكيد هذا الطرح، إلا أنه قوي بعد اتفاقية كامب ديفيد، وحين قال به شارون، وتسيبي ليفيني التي كانت وزيرة خارجيته والتي أكدت على أن «للفلسطينيين وطناً آخر خارج الدولة».
إن هذه الدعوة غير الطاهرة تؤكد على أن الحركة الصهيونية العالمية، التي اتخذت منذ زمن طويل، برامج وبروتوكولات واضحة، لا تزال مستمرة في خطواتها للوصول إلى هدفها التالي وهو ربط المواطنة بالولاء للدولة، أي أن «المواطن الإسرائيلي» حسب التعريفات الصهيونية الجديدة هو فقط الذي يقر «بالدولة» التي تقوم على مبدأ يهوديتها. وهذا يعني، بالضرورة، أن يكون يهودياً خالصاً، من جهة. ومن جهة ثانية يعني، بالضرورة أيضاً، تفريغ «الدولة» من الأغيار أي ممن هم ليسوا بيهود، وأول هؤلاء الأغيار الفلسطينيون أصحاب الأرض الأصليون.
ومما يزيد الرصد للحراك الصهيوني تأكداً من خطورة الأمر، هو أن المحكمة الإسرائيلية العليا قد وافقت على طرح «يهودية» الدولة، رغم أنه ينسف كل مكوّنات الدولة الحديثة ومفهومها التي يجب أن تقوم على «الحق» و»الشرعية» و»الديمقراطية.
القضية صعبة وخطيرة أكثر مما تبدو للعيان، ولنا معها وقفة تالية.