ثمة تحولات سياسية واجتماعية، وحالة متنامية من الاحتقان السياسي، تدعو إلى إعادة التفكير بصوت مرتفع في المسار الذي تتجه نحوه الوطنية الأردنية، بعيدا عن الحديث المكرور والتقليدي حول الهوية والمواطنة، وما تنطوي عليه كل منهما مما يشبه أسماء حركية لأجندات غامضة أو تيارات غير ناضجة.
تلك التحولات لها تعبيرات واضحة، لعل آخرها القراءات المتفاوتة لحديث الأمير الحسن للتلفزيون الأردني، بكل ما فيه من تعبيرات جديدة وقديمة.
بين السعي الحثيث إلى تحويل قضية الإصلاح السياسي إلى مجرد محاصصة سياسية والعبث بالتكوين الديمغرافي الذي يجب الاعتراف بهشاشته القاتلة في المفاصل السياسية وليس الاجتماعية، وردود الفعل التي تمارس بالإقصاء وتوسيع دوائر التهميش في هذه البيئة الملتبسة، يعود من جديد طرح البرنامج السياسي للهاشميين للنقاش.
وهو حديث انتهى منه الأردنيون منذ أكثر من خمسة عقود، ما يدعو إلى لفت الانتباه إلى سؤال: أين تسير الوطنية الأردنية؟ هل إلى تحويلها لمجرد وطنية نزقة انفعالية جاهزة لاتهامها بالعنصرية، أو إلى المزيد من تفريغها من مضمونها الاجتماعي والسياسي، وتسطيحها وجعلها رخوة وهشة قابلة للزوال؟
بمعنى، كم نحتاج إلى منظور بنائي جديد للتفكير في مسار الوطنية الأردنية؟ لأن الذهاب إلى أي عمليات إصلاحية على المستوى السياسي في حالة الاحتقانات والاستقطاب السياسي والاجتماعي، ستكون نتائجها كارثية، إذا ما أخذت بعين الاعتبار هذه الحقائق.
بكل وضوح، لا الهاشميون ولا الأردنيون يريدون هاشمية سياسية جديدة.
وكلام الأمير، وقبله بعض الإشارات السابقة، لا تزيد على مجرد أفكار متخيلة، ذهب الإعلام إلى تفصيلها كل على مزاجه.
ولا بد من التذكير بأن الهاشمية هي قيمة معنوية ذات بعد رسالي، اندمجت في مسار بناء وتشكل الوطنية الأردنية، وفي مسارها التاريخي تحولت إلى قيمة نامية في بناء الوطنية الأردنية؛ فقد كان مشروع الأمير/ الملك عبدالله الأول في النصف الأول من القرن الماضي “عربيا–إسلاميا” ثم “وطنيا أردنيا”، بينما مر مشروع الملك الحسين في لحظتين تاريخيتين؛ الأولى “عربي–أردني”، والثانية “أردني–عربي”.
وفي العهد الحالي، تماهى مشروع الملك عبدالله في الصيغة الوطنية “أردني–أردني–عربي”، وهذا تطور مهم في مسار بناء الوطنيات المتشابكة، ونتيجة طبيعية لحضور الجيل الرابع وفعاليته.
التفاعلات الداعية إلى الإصلاح تحت عناوين متعددة، والأخرى التي تعبر عن تمسكها بالشرعية بأدوات تقليدية وجديدة، من المفترض أنها جميعا تدفع إلى الاندماج في الوطنية الأردنية أو تدافع عنها.
لكن هذا التكثيف قد يحرف المعاني والقيم عن مسارها الطبيعي، ما يحتاج إلى المزيد من الوضوح والسعي الحثيث إلى بناء ثقافة سياسية جديدة.نظريا، الوطنيات في مسار بناء الأمم لا تُعدّل أو تُقيّف، بل تنمو بالاستيعاب والصهر والانفتاح، ما يعني أن نراقب التحولات التي تمر بها الوطنية الأردنية بهدوء، لنحدد كم نحتاج إلى مراجعة مصاحبة للعمليات الإصلاحية، لمواجهة خيارات المستقبل القريب.
وهذه المراجعة تحتاج حضور روح الدولة الواثقة من الذات والمستقبل، والوضوح الاستراتيجي في الوحدة الوطنية والعلاقات الأردنية-الفلسطينية وفي الدور الأردني في الصراع والتسوية، والوضوح في مستقبل علاقة المجتمع بالدولة وجوهر ومضمون المشاركة السياسية وحدودها، وحدود دور المجلس النيابي القادم وآليات تكوين نخب الدولة، ووضوح في مسارات الإصلاح الاقتصادي وطرق التعامل مع ملفات الفساد.
يحتاج كل ذلك إلى بناء صراحة عميقة في حوارات الدولة مع المجتمع؛ في السياسات والسلوك العام للدولة، أي السلوك الاستراتيجي الذي ينفتح على الداخل؛ على حق البلاد في الانفتاح والإصلاح والتنمية العادلة، كما يحرص على بناء كفاءة وطنية في إدارة القضايا المصيرية الإقليمية والدولية.
كل ذلك يبدأ وينتهي في إطار ثقافة سياسية جديدة تصب في المحصلة في بناء عناصر قوة الدولة الأردنية وتعزيزها وحمايتها. وهذه الثقافة يجب أن تفهم وتمارس الإصلاح والتحول الديمقراطي باعتباره عنصرا أساسيا من عناصر قوة الدولة والمجتمع وتماسكهما.
الغد