شكلت مقاهي عمان التي أقيمت فيما يصطلح عليه ” وسط البلد” جزءاً أصيلاً من ذاكرة المدينة، وساهمت لوقت طويل في صياغة المشهد الحداثي للمدينة، المشهد الذي بات يخبو شيئاً فشيئاً، أو يأخذ شكلاً مغايراً بفعل منافسين جدد ضربوا بتراث وسط البلد عرض الحائط.
المقاهي التي اندثر بعضها، فيما يصارع ما تبقى منها النسيان، لم تكن وقت إنشائها، وهي تدخل الحداثة في أربعينيات القرن الماضي، حالة طارئة على المدينة، بل كانت، حسب الأكاديمي والمعماري رامي ضاهر، هي “بوابة” الدخول إلى الحداثة عندما وفرت كما يقول، المكان الفيزيائي الذي أستوعب المفكرين والصحفيين والمبدعين ورجالات الدولة.
وتعلق في ذاكرة عمان أسماء عشرات المقاهي، التي انتشرت على امتداد رأس العين، مرورا بشارعي الملك طلال وسقف السيل (شارع قريش) وحتى ما بعد جسر رغدان وصولاً للمحطة، ثم التفرعات مقابل المسجد الحسيني وشارع الملك حسين وشارع بسمان وحتى العبدلي وشارع الأمير محمد.
في غمرة مئات الأسماء التي تعج بها ذاكرة المكان، كان لمقاهي الجامعة العربية، السنترال، بلاط الرشيد، كوكب الشرق، عمون ومقهى الأردن النصيب الأوفر في الذاكرة.
مقاهي صنفت في زمن ما حكرا على صفوة المجتمع ، قبل ان يصبح ما تبقى منها اليوم مقصدا للقليل من الزوار التقليدين، الذين الفتهم وألفوها، وللكثير من الطامحين لمعايشة `رث المدينة الضائع، أو الباحثين عن خدمات بأقل الأسعار.
زي كل مرة
في مقهى السنترال، ينتظر الستيني أبو كريم رفاق دربه من المتقاعدين بشكل شبه يومي ، يقول ” هنا تعرفنا، وهنا نقضى أوقاتنا منذ زمن طويل”، عامل المقهى المصري يعرف أبو كريم ورفاقه، يقول ” عندما بدأت العمل في المقهى أوصاني بهم من سبقوني”.
بإبتسامة الواثق من نفسه، قال “عمال كثيرون جاءوا وذهبوا”.
المكان لم يتغير، الطاولات المقاعد الخدمات المقدمة، باستثناء الزيادة الطفيفة على أسعارها ، ما تبدل وجوه الناس والعمال وملاك المكان، هكذا يفصح.
العامل المصري يكتفي بالسؤال” زي كل مرة”، وبإيماءة من راس أبو كريم يأتي الطلب دون النطق به.
الطاولات تنتظر رواداً لن يأتوا، فالمكان شبه فارغ، لم يكن الحال كذلك، يقول أبو كريم ” في الماضي كنا شباباً ولم نكن نجد مقعداً لنا أحيانا “، نظر إلى طاولة مقابلة له يشغلها أربعة شباب مراهقين يلعبون الورق (الشدة)، وقال وبصوت منخفض بعد أن اقترب مني خشية أن يسمعوه ” ما كانوا يسمحوا للأولاد بالدخول”.
بوصول رفاق أبو كريم وبعد السؤال عن أسباب التأخر والعتاب ، يبدؤوا لعب الورق الذي يتخلله الحديث عن الماضي، والطلبات تنزل على الطاولة وكلها مسبوقة بالإيماءات بعد كلمة ” زي كل مرة”.
الستيني موسى العبد لا يذكر متى دخل المقهى أول مرة، يتوقع أن تكون الزيارة الأولى كانت قبل 40 عاما، أو ربما اكثر من ذلك،يقول “المكان على حالة، باستثناء الشرفة التي أزيلت” ، لكنه يستدرك “لكنه كبر مثلنا عجزنا”.
نسيان وتهميش
حال مقهى” السنترال” لا يختلف عن حال بقية “أقرانه”، رغم محاولات أصحابه استعادة بعض البريق، كما فعل مقهى بلاط الرشيد – مقابل البنك العربي- الذي تجديده وطلاء شرفته وتزينها بأعلام دول العالم، في محاولة تبدوا أنها نجحت نسبيا بإعادة استدراج المثقفين والدارسين والسياح للمكان الذي كان يوما مقراً الروائي مؤنس الرزاز.
غير أن ما تعرضت له تلك المقاهي من نسيان وتهميش، لم يكن بمرارة ما تعرض له مقهى “جامعة الدول العربية” الذي أغلقت أبوابة في شباط من العام 2008، بعد 60 عاما من الذكريات.
المقهى الذي تم افتتاحه عام 1947 احتل قلب المدينة فكان يُشرف على ثلاثة شوارع هي: شارع ساحة المسجد الحسيني أو شارع طلال، شارع السعادة، و أول شارع بسمان.
وأطلق أصحاب مؤسسو المقهى محمد الديراني ومعروف اللبابيدي الاسم عليه تيمنا بجامعة الدول العربية التي اسست في العام 1945، إذ عمت بين أبناء العروبة في تلك الفترة آمال تحقيق الوحدة العربية .
عبد الكريم الشيخ (64 عاما) أحد الرواد القدامى للمقهى قال ” المقهى كان ملتقى للسياسيين ونواب عمان وكتابها ومفكريها وقادة الحركة الوطنية والتجار”، يتابع ” كان المقهى مكانا تصنع فيه السياسة وتجري في النقاشات حول مستقبل البلد ويتابع رواده الأخبار، ويطلعون على مجريات الحياة السياسية”، بحسرة يقول” إغلاقه خلف فراغاً كبيراً في المكان”.
توقف الزمن في تلك المقاهي عند اليوم الذي نشأت فيه، أمر يعتبره البعض جزءاً من الحفاظ على أصالة المكان، وانتصاراً لهوية المدينة لكن المعماري ضاهر يصفه بـ الفشل”.
ضاهر الذي يلفت إلى أن مقاهي وتراث وسط البلد لم تواكب حركة التطور في المدين، انتقد ” تجمدها” على حالها زمنا طويلا، واكد على ضرورة أن يواكب ما تبقى منها تطور المدينة، حتى “لا تجد نفسها خارج الزمن”.
وهو تطور يقول ان أساسه” وعي على المستوى الاجتماعي لتعود لاستقبال الحراك الفكري كما استقبلته في الزمن الماضي، وعي يحترم الماضي ويواكب المستقبل”.
تراث باب الحارة
الوعي بتراث المدينة، لم يكن حاضراً عندما بدأت المقاهي الجديدة تغزو وسط البلد، إضافة إلى الويبدة، وشارع الرينبو في جبل عمان.
وإذا كانت المقاهي القديمة لم تستطع أن تتطور مع تطور المدينة فان الحديثة منها لم تفهم تراث عمان.
يقول ضاهر الذي يبدي غيرة على تراث عمان ” المقاهي الحديثة التي سوقت نفسها تحت مفهوم التقليدية لم تفهم تراث عمان، وسيطر على عقل من انشأها بان التراث يتمحور حول بيت جدي القديم في القرية، أو تلك الكتلة القديمة التي تُلبس بالخشب”.
وبدلاً من أن تسهم المقاهي الحديثة بإنفاذ تراث وسط البلد، فقد سددت ضربة موجعة إليه، من خلال ما أحدثته من تشوه بصري وفكري، أكد على تراجع مستوى فهم العماني لمدينته.
مفهوم خاص طوره أصحاب تلك المقاهي للتراث، يصفه ضاهر بـ ” تراث باب الحارة”.
فعندما تلج المقاهي الجديدة، المكتظة بالرواد من شتى الطبقات الاجتماعية، اليساريين الجدد ، أشباه المثقفين، العشاق، السياح، القادمون منهم من خارج الأردن، أو من باتوا يعرفون بالسياح داخل مدينيتهم، من الباحثين عن أحلام وسط البلد، التي استفاقت فجأة في ذاكرة المكان، تشعر بالوجل.
يستقبلك “جرسون”، يقودك إلى مكان غالبا ما يختاره هو، يجتاز بك العديد من المطاولات التي وضعت عليها كلمة ” محجوز”، لا يتلفت إليك أحد إذا كنت وحيدا في المكان.
يسألك ” الجرسون” عن طلبك، وهو يحمل جهازاً رقمياً يبدو غريبا وسط “الأنتيكا” المنتشرة في المكان، بعد أن يعدد لك قائمة طويلة من الأشياء المتوفرة تضعك في حيرة من أمرك.
يقول الصحفي والمدون محمد عمر المهتم بتراث وسط البلد عن مقهى (جفرا) الذي اكتسب اسمه من اسم قرية فلسطينية “كان المفترض فيه أن يكون على غرار مقهى (عمون) في العبدلي، ملتقى -أو هو كان في بداياته كذلك-، ملتقى لشباب انضموا حديثا لليسار، ولكنه تحول إلى (كوفي شوب) عادي، بأسعار مرتفعة نسبيا قياسا إلى مقاهي وسط البلد ما جعل “المثقفين وأشباه المثقفين والمغرومين بنمطيات اليسار” أن يهجروه إلى مقاه أخرى أقل تكلفة”.
غالبية أثاث المقهى، أحضر من دمشق وحلب، وعج المقهى، كما أقرانه بكل قديم وبلوحات معلقة على الجدران، يقول ضاهر ” ما حدث في هذه المقاهي هو اجترار للماضي”، يتابع ” عندما ادخل إلى المقاهي الحديثة (بغط على قلبي) من بشاعة الأشياء المعلقة على الجدران، واشعر أن الجدران
ستخنقني.
هذا ليس تراثا كما يشدد ضاهر، وكان يمكن بدلا من إنفاق مبالغ كبيرة على “صناعة البشاعة ان يتم إنفاقها على أشياء مختلفة تخلق بيئة جميلة وتكون بنت عصرها”.
المقاهي الحديثة التي أريد لها أن تكون تراثية، كانت في الحقيقة خارج تراث عمان، فلم تنجح في استقطاب الحركة الثقافية والفكرية والسياسية التي شهدتها المقاهي القديمة، ولم تتعدى أن تكون مشاريع تجارية تدر دخلاً على مالكيها.
لقد تحولت هذه المقاهي إلى ظاهرة، بعدما أصبح وسط البلد “موضة” في السنوات الأخيرة، وأصبحت مقصداً لمواطنين أرادوا إحياءها فوجدوا انفسهم سياحا فيها بعدما دخولها دون شغف حقيقي بها، ودون فهم لأسرارا ها.
المصدر: مجلة المستور
فصلية متخصصة بقضايا الفقر والإنسان