عبت مؤسسة القمة العربية دورا فاعلا في السياسة العربية، فهي تجتمع لتناقش القضايا المحورية الأساسية، وبخاصة المخاطر التي تحدق بالمنطقة، وهي تبلور سياسات متفقا عليها، يعمل بوحيها الجميع بعد انتهاء عملها، وهي تبلور محورا قياديا ينظم الشؤون العربية، غالبا ما كان يتشكل من مصر وسوريا والسعودية، وكانت مصر تلعب دوما دورا قياديا في هذا المجال.
الآن.. تبدو الحاجة ملحة لانعقاد هذه القمة، ولكن أوضاع مصر ومشكلاتها الداخلية تنأى بها عن لعب دورها القيادي المنشود، وهنا تبرز السعودية كدولة مؤهلة لذلك، ولكن السعودية تنأى بنفسها هي أيضا عن أداء دور قد يبدو منافسا لمصر. وهذا موقف سعودي إيجابي، ولكن ليس ضروريا ولا محتما أن يفسر أي تحرك سعودي مطلوب، على أنه منافس لمصر. ومن الممكن حتى أن يتم بالتفاهم معها، بل وربما بالتنسيق أيضا. المهم ألا يبقى الوضع العربي تائها من دون سياسة عامة تحكمه.
إن وجود مصر في أي سياق سياسي عربي، مفيد للغاية، لمصر ولجميع العرب الآخرين، وحين تكون مصر بمشكلاتها الداخلية منشغلة عن أداء هذا الدور، فإن تحرك طرف عربي آخر، قد يساعدها على أن تعود لنشاطها السياسي المعهود، ولدورها القيادي الذي لا ينكره عليها أحد.
إن الدور القيادي لأي دولة، ليس مجرد تسمية، بل هو مهمات ومبادرات وعمل شاق، ولذلك فإن انبثاقه عن قمة عربية أمر ضروري ومفيد. وحين تكون هناك مهمات محددة، ترسم إطارها قمة عربية، فإن أي إسهام فيها يكون طبيعيا وبعيدا عن عقلية المنافسة أو التفرد. والفوائد التي تجنى من سياسة عربية مرسومة، تبادر إليها هذه الدولة أو تلك، أكثر جدوى بكثير من حساسيات قد تنشأ هنا أو هناك، لا بل ربما يكون وضع من هذا النوع، مشجعا لمصر لكي تساهم وتبادر، حيث الحرص العربي على دور مصر القيادي متوافر دائما.
هناك مصالح عربية عديدة، اقتصادية وسياسية، لا بد أن تتفاعل مع الوضع الدولي من خلال تلك السياسة المرسومة، إذ لا يمكن للمنطقة العربية أن تبقى بمنأى عن هذا التفاعل، فالمنطقة العربية بوضعها الاستراتيجي، وبالنفط الذي تنتجه وتصدره، محكومة بوضع استراتيجي لا مهرب منه. كما أن الصراع العربي – الإسرائيلي الدائم، لا يمكن إدارته أو التأثير فيه، من دون سياسة عربية دولية متفق عليها.
إن التطلع إلى هذه المهمة، بآفاقها الدولية، مفيد حتى في تحسين الأوضاع العربية الداخلية، إذ حين تكون هناك سياسات مرسومة، يؤدي فيها كل طرف دوره، فإن حالة من التناغم والتعاون والتنسيق، تنشأ بالضرورة، وهو أمر مفيد للجميع.
وإذا نظرنا إلى منطقتنا من منظور إقليمي، نجد فيها ثلاث قوى هي: العرب وإيران وتركيا، حيث لإيران سياستها المستقلة، وحيث لتركيا سياستها المستقلة، ولكن السياسة العربية العامة تبدو غائبة، ولذلك نقول إن هناك حاجة لمثل هذه السياسة، وهي إذا نشأت تستطيع أن تقيم تعاونا وتنسيقا مع كل من تركيا وإيران، ويتولد عن ذلك سياسة إقليمية تتلاقى فيها القوى الثلاث، ويصبح لها بذلك وزن استراتيجي عالمي.
إن العلاقة بين هذه القوى الثلاث ليست على ما يرام، وهي تصل أحيانا إلى حد المنافسة أو العداء، بينما تؤكد المصالح الحاجة إلى الصداقة والتعاون والتنسيق. ويمكن طبعا بناء هذا التعاون مع تركيا وإيران، بسياسة تنتهجها كل دولة عربية على حدة، ولكن لو أن توجها عربيا من هذا النوع يأتي جماعيا، وحسب استراتيجية مرسومة ومنبثقة عن قمة عربية، فإن تأثيراته الإقليمية والدولية تصبح أقوى بكثير.
ومن داخل القمة العربية، كان يوجد دائما تلاق بين سياسات ثلاث دول عربية هي مصر وسوريا والسعودية، وكان هذا التلاقي يشكل ما يشبه المحور المحرك، وهناك حاجة الآن إلى عودة هذا التلاقي لتحريك العمل السياسي العربي بمنظور موحد. ويحتاج هذا المنظور إلى من يقوده يوميا، بمبادرة من مصر، أو بمبادرة من السعودية، أو بتعاون بين المبادرتين. المهم ألا يبقى هذا الأمر بعيدا عن الحركة بسبب الحساسيات كما قلنا.
ومن أجل مواجهة هذه الحساسيات بالذات، تبرز الحاجة إلى عقد القمة العربية، لكي تتاح الفرصة لإعادة بناء هذا المحور الاستراتيجي.
تستطيع كل دولة أن تكتفي بسياساتها الداخلية، ولكن كل سياسة داخلية تنتج سياسة خارجية من نوعها، أي سياسة خارجية «صغيرة»، بينما يستطيع الوضع العربي أن ينتج سياسة عربية أكبر وأفضل.
ولا بد أن نلاحظ هنا، أنه منذ زمن، يسير العالم نحو بناء التكتلات الإقليمية، ونحو الانخراط في تلك التكتلات، ولا يستطيع الوضع العربي أن يبقى بمنأى عن ذلك، إلا إذا أراد أن يستسلم لأدوار سياسة صغيرة، بينما هو يستطيع أن يؤدي أدوارا سياسية أكبر.
ومرة أخرى نقول، إن السعودية أصبحت مهيأة للعب دور قيادي في هذا المجال، وكل دولة تخسر كثيرا إذا هي لم تبادر إلى بناء سياسة خارجية بحجم ووزن سياستها الداخلية، فالسياسة الخارجية تعبر عن السياسة الداخلية، وإلا ينشأ خلل في التوازن يؤثر على مصالحها.
وربما تكون هناك حاجة إلى مشاورات عربية ثنائية أولا، قبل التوجه إلى طرح مثل هذا الأمر في مشاورات شاملة داخل القمة العربية، ولذلك لا بد من البدء في بناء هذا التوجه، بمشاورات ثنائية أولا، ثم في مشاورات جماعية تؤدي إلى سياسة مرسومة من خلال القمة العربية، يؤدي فيها كل طرف دوره.