اشياء غريبة وغير مسبوقة تجري في الاردن هذه الايام، فمن كان يتوقع ان يرى الجنرال محمد الذهبي الرجل القوي رئيس جهاز المخابرات السابق يرتدي ملابس السجن الزرقاء ويوضع في زنزانة مع مجرمين او معتقلين لعب دورا كبيرا في اعتقالهم. لا نعتقد ان الجنرال الذهبي كان يتوقع هذه النهاية، فقد كان يتصرف وكأنه الحاكم بأمره عندما كان في قمة المؤسسة الامنية الاشرس في البلاد، بل واصل السير على النهج نفسه حتى بعد اقالته من منصبه واثقا بانه فوق القانون والمساءلة.
التهم الموجهة الى الجنرال الذهبي من العيار الثقيل، وان كان ابرزها غسل الاموال وخيانة الامانة الوظيفية، فرجل في وزنه ومهامه وصلاحياته من المفترض ان يكون انصع بياضا من البياض نفسه، وان يكون ايضا فوق كل الشبهات فكيف وهو المؤتمن على امن البلاد واستقراره والحفاظ على دولة القانون فيه، يبادر الى خرق القانون او الالتفاف عليه، ومحاولة التكسب غير المشروع مستغلا منصبه وصلاحياته؟
هذه ليست المرة الاولى التي توجه اتهامات كهذه الى قادة الاجهزة الامنية في الاردن، فقد صدرت احكام مشابهة في حق الجنرال سميح البطيخي، وخدم في السجن عدة سنوات تنفيذا لعقوبة صدرت في حقه، ولكن الفارق كبير بين الرجلين او الجنرالين اي البطيخي والذهبي، فالاول انزوى في بيته، وابتعد كليا عن الاضواء بعد خروجه من السجن، ومارس حياته بصورة طبيعية مثل اي مواطن عادي، لكن الجنرال الذهبي لم يتصرف بهذه الطريقة، وظل يتدخل في شؤون كثيرة، ويحاول ان يلعب دورا سياسيا ويزور الدواوين وكأنه ما زال في السلطة.
القضاء الاردني سيقول كلمته في نهاية المطاف، واذا كانت التهم صحيحة ومثبتة بالوثائق فان الرجل سيدان وسيواجه عقوبة السجن، واذا كان بريئا فانه سيفرج عنه مثل اي متهم آخر تثبت براءته، ولكن الدرس الابرز الذي يمكن استخلاصه من كل هذه القضية ان هناك حكومة في الاردن مصممة على مكافحة الفساد يتزعمها رجل قانوني من الطراز الاول هو الدكتور عون الخصاونة يحظى بدعم العاهل الاردني.
الخطوة جيدة بلا شك، ولها معان كبيرة، فمحاكمة رجل الامن الاول السابق ليست بالعملية السهلة، والمطلوب ان تستمر هذه الحملة لتطال رؤوسا كبيرة غرقت في الفساد، ووجدت الحماية والتغطية من المؤسسة الحاكمة.
بقي ان نقول ان مشكلة الاردن الابرز هي الصلاحيات المطلقة المعطاة للاجهزة الامنية بحيث تتدخل في كل شيء، الامر الذي وفر ارضية خصبة للفساد والافساد وهز الثقة في الدولة ومؤسساتها، ولعل المرحلة القادمة تضع حدا لمثل هذه الظاهرة الشاذة في البلاد، فليس من المعقول او المقبول ان يكون رأي جهاز المخابرات وموافقته ضروريين او حتميين لتسيير الكثير من المعاملات والاشغال بل حتى احيانا توظيف موظفين صغار في الاجهزة الحكومية.
ولا تفوتنا في هذه المناسبة التدخلات غير المقبولة والمهينة من قبل اجهزة المخابرات في الاعلام وكل فروعه الخاصة منها والعامة. ولعل فضيحة الرشاوى التي كشفت عنها نقابة الصحافيين الاردنيين اخيرا احد امثلة عن هذه التدخلات التي افسدت السلطة الرابعة وحرفتها عن مهامها في الرقابة والانتصار للقضايا التي تهم المواطن الاردني بالدرجة الاولى.