:الرسالة الأبعد والأعمق التي تتبناها مؤسسات النظام الأردني وهي تجازف بمحاكمة الجنرال محمد الذهبي مدير المخابرات الأسبق واضحة وبسيطة ولا تقبل الإجتهاد وتتعلق حصريا بإظهار الإستعداد لتطهير مؤسسات القرار. وعملية التطهر هنا إتخذت شكلا صريحا وشفافا سواء تعلق الأمر بإستجابة حيوية وإيجابية لمطالبات حراك الشارع كما يصفها الدكتور ممدوح العبادي أو تعلق بالتوثق داخل أروقة القرار من أن المؤسسة لم تعد تستطيع المضي قدما بطرق الإدارة الكلاسيكية او القديمة.
ويبدو أن فريق الحكم الجديد في المؤسستين الحكومية والأمنية الذي يتولى الأمور منذ ثلاثة أشهر بصبر وثبات يتعامل مع ‘ورثة: معقدة جدا وسيكون لها كلفتها وتحتاج لجهود مضنية وفعالة ليس فقط لإن الإعتراف ضمنيا حصل بهزيمة نظريات الإدارة والحكم المعتمدة منذ 12 عاما سياسيا وشعبيا على الأقل.
ولكن أيضا لإن الشارع بمختلف قواه لا زال يهتم فعلا بعزل النظام نفسه عن كل سياقات المطالبة بالتغيير والإصلاح فكل الخطايات لا زالت تحت سقف النظام والإنطباع العام اليوم يشير لإن حكومة الرئيس عون الخصاونة تبدو قارئة جيدا للمشهد في مقابل قراءة ‘أمنية’ متعمقة قبلت المجازفة بمحاكمة مدير المخابرات الثاني خلال عدة سنوات ليس فقط إنطلاقا من تطهير الذات ولكن أيضا للبرهنة على أن الأخطاء والإنجرافات بصرف النظر عن طبيعتها تبقى ‘فردية’.
مشهد الجنرال الذهبي ومحاكمته لا زال مسيطرا على الإيقاع العام محليا بعد إن إتخذت قضية ‘الذهبي جيت’ مسارها القضائي والقانوني وأحد كبار السياسيين ذكر القدس العربي بأن أجهزة الإستخبارات الأمريكية وبعدها الغربية لطالما كشفت تورط جنرالات فيها بالتجسس لصالح الخصوم مشيرا الى ان ذلك ينتهي في الديمقراطيات بالعادة بتقدير المؤسسات الأمنية شعبيا وليس العكس على إعبتار أن من اخطأ وتجسس هو الفرد وليس المؤسسة.
اليوم لا يبدو الشارع الأردني منزعجا من محاكمة الذهبي ولا تبدو هذه المحاكمة منعكسة سلبيا على دور وسمعة وحضور المؤسسة الأمنية مما يؤشر وحسب النائب خليل عطية على أن الرهان على عملية التنظيف الذاتي دوافعه نبيله ونهاياته إيجابية وليس العكس.
وليس سرا اليوم بأن تطورات الإقليم والإحتمالات السيئة التي عايشتها بعض الشعوب والأنظمة العربية تظهر أكثر من أي وقت مضى الحرص على النظام وتجنب الإنفلات .. لذلك يميز حتى الحراكيون والمعارضون بين الأخطاء الشخصية التي تورط بها الذهبي أو غيره وبين المؤسسة الأمنية التي يمكن بوضوح رد الفضل لها عندما يتعلق الأمر تحديدا بتوفير المعطيات التي سمحت بمحاكمة الذهبي.
بكل الأحوال ستبقى ‘الذهبي غيت ‘مثارا للنقاش والتجاذب قليلا لكن يمكن بوضوح رصد ملامح الإرتياح التي أثارتها في الشارع العام حيث رفضت المحكمة أمس الأول طلب الإفراج الأول عن الذهبي وقال محاميه علنا بأن مسألة جهة الإختصاص في محاكمة موكله لم تحسم بعد فيما قالت مجموعة غامضة انها أسست صفحة للتضامن مع الذهبي على فيس بوك بعدما نقل الرجل إلى سجن سواقه الصحراوي حفاظا على أمنه الشخصي بسبب وجود العشرات من الموقوفين الأصوليين في سجن العاصمة الذي كان فيه.
والقيمة المضافة في مسألة الذهبي سجلها عمليا الجنرال المتقاعد من جهاز المخابرات اللواء محمد البدارين عندما نشر مقالا في صحيفة الإصلاح الإلكترونية تحدث فيه عن ظاهرة جنرالات الوهم الذين أساءوا للمرحلة وللعمل ولشرف المهنة متنبئا بسقوط أقنعة جديدة لاحقا في إطار الحملات على الفساد
بسام بدارين – القدس العربي.