لو سألتني: هل يتفق الأردنيون على “وصفة” محددة للإصلاح، لقلت لك: لا، وبصراحة اكثر ما زال مجتمعنا في الغالب باحزابه وقواه السياسية والاجتماعية والاقتصادية متوجسا من “التغيير” وينظر اليه من زاوية مصالحه ومن باب ما يعود عليه من منافع ذاتية.. حتى لو اصطدمت بمصالح غيره ومنافعهم.. ناهيك عن مستقبل اجيالنا القادمة والمشكلة ليست في الناس وانما في غياب خريطة واضحة وفي استعصاء تنفيذه ايضا.
هذه حقيقة مرة لكن لدي عشرات الامثلة –الادلة ان شئت- على ذلك وسأبدأ بهذه المفارقة اذ اعلن تجار وسط العاصمة امس عن “اضراب” لمدة ساعات احتجاجا على قانون المالكين والمستأجرين فيما لم نعدم عشرات الدعوات والاعلانات المدفوعة الثمن من هؤلاء “لادانة” مسيرات ايام الجمعة التي تنطلق من امام المسجد الحسيني بذريعة انها تسببت في الحاق الخسائر بهم، ووجه المفارقة هنا ان بعض اخواننا التجار لا يترددون في اشهار “احتجاجهم” واضرابهم حتى كان ذلك في سياق “المطالبة” بحقوقهم او تحقيق مصالحهم لكنهم غير معنيين باعلان اي موقف للمطالبة بالاصلاح مع ان هذا الاصلاح متى تحقق سيصب في مصلحتهم مثلما سيصب في مصلحة باقي الناس.
خذ مثلا آخر، اضراب المعلمين عن التدريس في المدارس الحكومية واصرارهم على انتزاع علاوة الـ 30% التي حرمتهم منها “الهيكلة” ووجه المقارنة ان اخواننا المعلمين يعتبرون ان الاضراب مشروع لهذا الهدف الذي يشكل اولوية بالنسبة لهم اما موضوع “الاصلاح” فهو شأن الاردنيين كلهم، وما دام انه كذلك فهم يرون بان “مطلبهم” بالعلاوة هو الاصلاح ذاته واذا ما تحقق انصرفوا –راشدين- الى مدارسهم مع ان المنطق المفترض يقول بان الاصلاح هو الاولوية وبأنه اذا تحقق سيفضي –بالتأكيد- الى اعادة العلاوة لهم، نزولا عند قاعدة “العدالة” التي هي اساس الاصلاح.
يمكن ان اضيف عشرات الامثلة “المطالبات” واحتجاجات خرجت من قبل فئات العمال والنقابيين والموظفين.. الخ، وهذه كلها وضعت “حقوقها” الفئوية كأولوية للاصلاح بل انها اختزلت الاصلاح في مصالحها، فيما احجمت –برغبتها- عن المشاركة في الحراكات التي وضعت مطالب المجتمع بالاصلاح الشامل على رأس اولوياتها.
اذا تأملنا الصورة سنرى ان مجتمعنا ما زال يخوض صراعا مع الاصلاح وحوله ايضا ويتعامل معه بمنطقه الخاص تبعا لاعتباراته لا بمنطق العموم ومصالحه واعتباراته ويمكن ان نقول باننا امام ثلاثة تيارات: تيار سياسي نخبوي يتعامل مع “الاصلاح” وفق حسابات سياسية محضة، وما يعنيه من الاصلاح لا يتجاوز البحث عن نصيب له في “السلطة” او نفوذ له في الشارع او مقاعد في البرلمان، وتيار “نفعي” يتعامل مع الاصلاح وفق اعتبارات “رقمية” او جدوى اقتصادية وهو لا يتردد عن مباركة اي واقع سياسي ما دام انه يحقق له ارباحا اكثر واستثمارات افضل، اما التيار الثالث فهو يضم اغلبية الناس سواء المهمشون منهم او الشباب الذين خرجوا من الوصايات بمختلف انواعها او “حزب الكنبة” المتفرجون، هؤلاء كلهم مع الاصلاح بمفهومه الحقيقي والشامل ولكن “قلة” منهم من يخرج ويحتج ويطالب.. ومع انهم يرفعون شعارات “سياسية” للاصلاح الا ان مطالبهم الاساسية اقتصادية واجتماعية لكنه –بدافع الانصهار في المجتمع وتماهيهم مع الناس- يضمرون حاجاتهم الذاتية لمصلحة الآخرين ويشهرون صوت المجتمع من خلالهم على عكس ما يفعله اخواننا الذين لا يتحركون الا للمطالبة بحقوقهم الفئوية والخاصة.
نحن اذن امام “اصلاح” نختلف على اولوياته ونتصارع على ا جنداته لكن هذا لا يعني ان امكانية التوافق غير ممكنة او غير واردة ان “الاولويات” الفئوية لا يمكن ان تتوحد في اولويات عامة على العكس تماما من المؤكد ان ذلك سيحصل متى نضجت الظروف ومتى اطمأن الناس الى ان “الاصلاح” الحقيقي هو الطريق لحل مشكلاتهم وهو –لا غيره- الجامع والمشترك لهمومهم ومطالبهم ايضا.
يبقى ان الاصلاح بمعناه الموضوعي الذي يتجاوز الخاص الى العام والمصالح والمطالب الذاتية الى المصالح التي تعني كل الناس في مجتمعنا ما زال “مختلفا” عليه لا لاننا لا نريده وانما لان كثيرين في بلادنا ما زالوا مشغولين بهمومهم وقضاياهم الخاصة او خائفين من المطالبة به او مترددين امام “الفزاعات” التي يرفعها البعض لاشغالهم عنه او لطردهم من المشاركة في انتزاعه.. وهذا بالطبع مفهوم في سياقات استعصاء الاصلاح وحاجة المجتمع لمزيد من الوعي والنضوج لتقديم مصلحة المجموع على مصالح الافراد والفئات المختلفة.