الاصلاح نيوز /خاص /كنتب سامح المحاريق/
لينينجراد، للروسي دميتري شوستاكوفيتش هي سيمفونية القرن العشرين، وفي مكانة بعيدة جدا عن أي عمل موسيقى آخر، وشوستاكوفيتش تحديدا مختلف عن أي موسيقي كلاسيكي منذ باخ وحتى اليوم، ملامح هادئة، شعر مهذب ومصفف بعناية، أنيق، يمتلك نظرة غامضة وتائهة بين المكر والبراءة، كانت الموسيقى بالنسبة له عملا مقاوما، نبضا للعالم من حوله، خاصة الاتحاد السوفييتي، عالية النبرة، قوية، متدفقة، في فترات الصعود، حزينة، كابية، وعميقة، في فترات الانكسار، كذلك عماد حجاج، رسام الكاريكاتير في الأردن.
يكسر حجاج الصورة التقليدية للفنان، خجول، بعيد عن النزق، مضياف، لا يحمل الآخرين مسؤولية حالاته الإبداعية، يتجرعها بصمت وأناة، ويفكر أكثر من مرة قبل أن يلقي تعليقا مؤذيا من بعيد أو قريب على أحد الأشخاص، باختصار عماد حجاج هو الرجل الذي يمكن أن يطلق عليه توصيف “مجرم”، لأنه حتى لو أراد ذلك فإنه سيفشل بصورة ذريعة ومثيرة للسخرية، ومع ذلك، فإن حجاج مثل صديقنا شوستاكوفيتش، ليس بالشخصية التي يمكن أن تترك في “حالها”، وسيرغم بكل الطرق وشتى السبل أن يكون على الحافة.
فعماد الذي أشك أنه يجيد استخدام يديه في غير الرسم والتدخين، أصبح ظاهرة مقلقة لبعض المنظمات الصهيونية الأمريكية، التي يمكنها أن تتدخل في اختيار سيد البيت الأبيض شخصيا، وكأنه خليفة كارلوس أو بن لادن، ويبدو أن شخصيات عماد الكرتونية أصبحت أكثر قوة من أي وقت مضى، ويجب التهويش واستعراض العضلات لتردعه وتجعله يأخذ اليمين ويبحث عن حائط ليمشي في ظله، ولكن عماد لا يختلف كثيرا عن أبو محجوب وأبو محمد، رجل ليس لديه ما يخسره، هذه ورقته المهمة واستراتيجيته في المواجهة، والمسألة الصعبة التي لا تدركها الثقافة اليهودية القائمة على الاكتناز وبناء الأرصدة البنكية هي المواجهة مع شخص ليس لديه شيء ليخسره، تساءلت اسرائيل لأكثر من مرة عن الذهنية التي تدفع بعض الرجال ليفخخوا أنفسهم ويذهبوا لملاقاة الموت بمنتهى البساطة، وفشلت في الوصول إلى إجابة، مع أن الإجابة هي أنها جعلت الموت أفضل من الحياة وأكثر حرية وكرامة.
يعرف القراء الأردنيون وجها معينا من عماد، يفضلونه، يطلبونه، يطاردونه، الوجه اليومي، المواطن “تحت العادي” الذي تسلقت على كتفيه آفات الفساد والغلاء والعادات والتقاليد، أبو محجوب الذي يبحث عن مكان تحت شمس “الواسطة” و”المحسوبية” و”الشللية”، رجل الطوابير، مرة لأجل الخبز، ومرة لأجل الكاز، ومرة لأجل الباص الذي يقوده دائما “مشروع ديكتاتور” يحاول أبو محجوب أن يتلبسه في المنزل، فلا يجد سوى أسرة تضيع وقتها لترسم خارطة الطريق لالتهام الدجاجة كضيف عزيز على المائدة، ولكن لم يكن ذلك فقط هو عماد، ففي داخله أيضا، رجل يجد الوقت لمتابعة الأخبار، وقراءتها، بنفس العين، التي تستطيع أن تطلق الرادار وتضبط الفقر والحاجة والظلم والانتهاك في اليومي من حياتنا، وتعريه بطريقة ساخرة، وموجعة.
عماد كان صاحب صفارة الإشارة التي بدأت تطلق ذائقة الأردنيين ليمشوا على طريق السخرية زرافات ووحدانا، وأبو محجوب، هو الأب الشرعي لشخصية أردنية لا تفارقها خفة الدم والقدرة على التقاط النكتة وتوظيفها.
الوجه الآخر لعماد يتمثل في الناقد السياسي، فالدول مثل الأفراد، لا تخلو سلوكياتها من البلطجة والزعرنة، بالفعل بعض الدول تعيش على قطع الطريق وتتلبسها روح محمود المليجي الشرير العدواني، وبعضها منافق وأرزقي، مثل توفيق الدقن، وأخرى مشت على طريق الذلة والمسكنة مثل عبد الوارث عسر، ولكن اسرائيل استطاعت أن تجمع كل الوجوه وتستغل جميع المواقف، وأن تبدل أقنعتها بروتينية وخسة، إلا وجها واحدا يمثله حجاج، الرجل الذي ليس لديه شيء ليخسره، وكثيرون، غير عماد بالطبع، لا يجدون شيئا ليخسروه من الأساس.
حقق حجاج نجاحا كبيرا واستطاع أن يجني بعض المكاسب، ولكنه لم يبني ثروة من وراء ذلك، كان يمكنه أن يضع أبو محجوب وأبو محمد على قارعة سوق عكاظ ويجعلهم من أيتام “فلان” أو محاسيب “علان” ولكنه بقي وحيدا، لأنه حتى لو أراد أن يفعل ذلك، فإمكانياته في ممارسة النذالة والازدواجية محدودة للغاية، كما أن عماد تحديدا تعايش طويلا المستغل (بفتح الغين) ولم يكن يوما في موقع المستغل (بكسر الحرف نفسه).
فتشت المنظمات الصهيونية وتعبت ولكنها لم تصل إلى شيء، فالخطأ في التصويب واضح، وكأنها وجدت أن الإنساني بالضرورة هو المعادي للسامية، عماد تحديدا لم يخترع شايلوك الشهير في قصة تاجر البندقية ، ولم يوظف يوما الشخصية اليهودية ليبادلها الخصومة، حالة من النبل لم يتمتع بها حتى شيوخ الدين وبعض الأكاديميين، فنان فوق قومي وفوق جهوي وفوق طائفي، فعدوه هو السياسي الذي يصر على الانفصام الكامل بين السياسة والأخلاق، والعسكري الذي يحمل بندقية عمياء لا تعرف أسماء الضحايا ولا أعمارهم، تصنع الموت والإعاقات وكأن من يحملها يلعب الفيديو جيم، عدوه هو التاجر الذي يبيع كل شيء حتى المبادئ والأحلام، أصدقاء عماد هم أنفسهم أصدقاء شوستاكوفيتش، الخبز والحرية.