لا توجد حاليا مفاوضات فلسطينية – إسرائيلية. والشروط التي تطرحها إسرائيل من أجل المفاوضات تقضي عليها قبل أن تبدأ. وليس لدى الجانب الفلسطيني أي خطة بديلة لشعار المفاوضات، وهذا يعني أن الموضوع سيبقى عالقا، وجامدا على حاله، إلا إذا حدث تغير ما على الأرض يغير من موازين القوى.
القاعدة المنطقية للمفاوضات تفرض ضرورة الانطلاق من شعار ضرورة الانسحاب الإسرائيلي مقابل مطالب أمنية تريدها. وهذا يعني موافقة إسرائيل على الانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967 مقابل إجراءات تريدها لأمنها، ولكن إسرائيل بدأت تقفز من موضوع الانسحاب إلى موضوع تغيير خط الحدود، وهو ما يعني مواصلة احتلال أراض جديدة في الضفة الغربية.
ففي آخر عرض إسرائيلي قدمه إسحاق مولخو إلى الجانب الفلسطيني في لقاء عمان، اقترح إقامة دولة فلسطينية بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن تبقى القدس ضمن السيطرة الإسرائيلية.
الشرط الثاني: أن تمتد سيطرة إسرائيل إلى المستوطنات التي بنتها داخل الضفة الغربية.
الشرط الثالث: الحفاظ على الوجود الأمني الإسرائيلي في غور الأردن.
وتعني هذه الشروط عمليا، حسب وصف ياسر عبد ربه عضو اللجنة التنفيذية، اقتطاع أجزاء واسعة من الضفة الغربية، واقتطاع القدس، وتحويل الضفة الغربية إلى مجموعة كانتونات معزولة بعضها عن بعض، مضيفا أن هذه المبادئ تعني إقامة نظام فصل عنصري (أبارتهايد).
وقدمت صحيفة «هآرتس» شرحا لهذا الموقف الإسرائيلي، قائلة إنه في إطار التسوية الدائمة، يبقى السواد الأعظم من المستوطنين اليهود في الضفة الغربية وفي مدينة القدس، وضمن السيادة الإسرائيلية، أي يتم ضم الأراضي المقامة عليها المستوطنات إلى إسرائيل. أما الموقف الفلسطيني بالمقابل فيتمسك بضرورة الانسحاب إلى خط الرابع من حزيران (يونيو) 1967.
وجوهر هذين الموقفين المتعارضين، أن الطرف الفلسطيني يؤكد على مبدأ الانسحاب الإسرائيلي، بينما يؤكد الموقف الإسرائيلي على ضرورة إحداث تغيير في الحدود. وتضع إسرائيل هذا المطلب ضمن إطار «تحقيق الأمن الإسرائيلي».
لقد دارت المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية في كل المرات السابقة، على قاعدة الانسحاب، ثم على قاعدة تبادل الأراضي، أما الآن فإن إسرائيل تتطلع إلى التوسع والضم، وبطريقة تضمن لها سيطرتها على الضفة الغربية، إذ حين تطرح إسرائيل طلبها ببقاء سيطرة لها داخل منطقة الأغوار، فإن ذلك يستتبع وجود طرق تصل بين إسرائيل ومنطقة الأغوار، تمر عبر الضفة الغربية، وتكون تحت السيطرة الإسرائيلية. وتعني هذه الشروط الإسرائيلية، المرفوضة طبعا من الجانب الفلسطيني، أن احتلالها للضفة الغربية سيستمر، وأن موضوع الانسحاب ليس مطروحا بشكل يؤدي إلى مناقشة مجدية له. ولذلك فإن هذه المفاوضات ستتوقف حتما، وبخاصة بعد أن أعلن الرئيس محمود عباس بعد لقاءات عمان التفاوضية الأخيرة، أن خط الرابع من حزيران 1967، هو الذي يشكل أرضية للعودة إلى المفاوضات.
والسؤال الطبيعي هنا: ماذا بعد أن تتوقف هذه المفاوضات؟
المنطق السياسي يقول إنه لا بد للفلسطينيين من ممارسة ضغط على إسرائيل، من أجل إحداث تغيير في موقفها، والوسيلة الوحيدة لممارسة هذا الضغط هي في مقاومة مسلحة للاحتلال الإسرائيلي، ولكن القيادة الفلسطينية تعلن رسميا أنه لا عودة إلى استعمال السلاح، ولا يعرف أحد بعد ذلك كيف يمكن إحداث تقدم في هذه المفاوضات.
لقد أحدثت إسرائيل تغيرا أساسيا في موقفها السياسي، فقد قفزت فوق موضوع الانسحاب إلى موضوع الضم، بينما بقي الفلسطيني على حاله، أي الدعوة للتفاوض والإعلان الرسمي عن رفض اللجوء إلى المقاومة المسلحة للاحتلال، وهذا يعني أن الأمور ستبقى معلقة إلى أن يشعر الجانب الإسرائيلي أن هناك ما يدفعه إلى العودة إلى المفاوضات، وإذا لم يحدث ذلك، فسيبقى الجانب الإسرائيلي مرتاحا، فالاحتلال مستمر، والمفاوضات متوقفة، والضغوط لا وجود لها.
إن هذا الأمر يستدعي من السلطة الفلسطينية (إذا كانت لا تزال موجودة)، ومن منظمة التحرير الفلسطينية، أن تبحث في البدائل المنطقية، وأساسها وسائل مقاومة الاحتلال، شعبيا وسياسيا وعسكريا، وفي مرحلة من المراحل، يصبح التركيز على المقاومة المسلحة والعسكرية أمرا ضروريا وملحا، وبخاصة عندما تسد إسرائيل آذانها كي لا تسمع أي شيء آخر.
إن تاريخ الصراع مع إسرائيل ليس غائبا عن الأذهان، وإسرائيل غير مستعدة لتقديم أي تنازل ما لم تكن مجبرة عليه، وإذا فكر الفلسطينيون بهذا المنحى، فسيجدون أنفسهم مضطرين لبحث الأمور عربيا. فعمل فلسطيني مسلح ضد الاحتلال يحتاج حاضنة عربية من الدول المجاورة، وربما يحتاج أيضا إلى حماية أشمل من جامعة الدول العربية. يعني هذا جوهريا أنه لا يمكن الاكتفاء بعمل فلسطيني، وأنه لا بد من التفكير بعمل فلسطيني – عربي، ولكن الفلسطينيين بدأوا يميلون منذ سنوات إلى عمل فلسطيني بحت، وهذا ما لا يجب أن يستمر.
إن حصر موضوع الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بالفلسطينيين وحدهم، يضمن لإسرائيل التفوق منذ اللحظة الأولى، ولا يمكن إحداث تغيير في الموازين إلا بدفع الصراع ليعود إلى نقطته الأصلية، على أنه صراع عربي – إسرائيلي، وهذا يقتضي من السلطة الفلسطينية ومن منظمة التحرير الفلسطينية أن تعود إلى التأكيد على هذا النهج، وإلا فإن مساعيها ستتراجع يوما بعد يوم.
إن نظرية التفاوض، ولا شيء غير التفاوض، لم تلق استجابة مقبولة من إسرائيل، بل أشعرتها بالراحة، ولا بد من إعادة النظر بها، من أجل بلورة مناخ سياسي جديد في المنطقة.
ثم يجب ألا ننسى واقع الرعاية الأميركية للموقف الإسرائيلي، وهو واقع لا يمكن للفلسطينيين مواجهته إلا بدعم عربي، وبتحرك دبلوماسي عربي، ولكن هذا الموقف العربي لا يمكن أن يبدأ إلا حين يتحرك الفلسطينيون نحو موقف سياسي جديد، ثم يطالبون الآخرين بتبني هذا الموقف.