تدور على أرض سورية معركة مريرة. انطوت صفحة الاستقرار الكامل والصارم. اليوميات السورية تكسر القلب. صور فظيعة تنذر بالمزيد. جنازات وهتافات. رصاص وتظاهرات. ثم جنازات. لافتات واستغاثات. ثم جنازات. وبين جنازتين يسأل العربي عن سورية، وماذا بقي من استقرارها، ومن وحدتها، ومن العلاقات بين مكوّناتها، ومن قدرتها على الخروج من دمها.
ما يجري على أرض سورية يتجاوز مستقبل النظام فيها. إنه يتناول حجم أدوار إقليمية ودولية وتوازنات كان يُعتقد بأنها راسخة. يتناول مصير استثمارات سياسية وعسكرية وأمنية طويلة الأمد. لهذا رأينا الأزمة تمتد من شوارع حمص إلى مقاعد مجلس الأمن، ومن شوارع أدلب إلى الكرملين، ومن ساحات حماة إلى مكتب المرشد في إيران.
لنترك جانباً ضراوة المشاهد اليومية، والاستخدام المفرط للقوة، والممارسات الفظة، ورائحة الحرب الأهلية. لقد انزلقت سورية إلى معركة كبرى هي معركة حدود الأدوار. وأخطر ما في هذه المعركة هو شعور المنخرطين فيها بصعوبة قبول الخسارة.
قبل معركة القنبلة خاضت إيران معركة الدور. تقدمت في الإقليم. ولعلها حلمت بالقنبلة لحماية هذا الدور وتوفير «بوليصة تأمين» دائمة لنظامها. أغلب الظن أن المسؤولين في إيران لم يتوقعوا اندلاع المعركة في سورية حتى بعد هبوب رياح «الربيع العربي».
وقوف إيران إلى جانب سورية ليس غريباً ولا مفاجئاً. يكفي أن نتذكر أن سورية حمت إيران من اكتمال الطوق العربي حولها إبان حربها مع العراق، وأن العلاقة مع سورية هي التي سهّلت لإيران المرابطة على خط التماس اللبناني -الإسرائيلي، وسهّلت لها الإمساك بورقة تهديد أمن إسرائيل عبر صواريخ «حزب الله». ما كان لإيران أن تمتلك القدرة على تعطيل محاولات السلام الفلسطينية – الإسرائيلية لولا المعبر السوري.
خسارة إيران سورية ستعني هزيمة مدوية لسياسة ترسخت على مدى عقود. تعني دفع إيران إلى الملعب العراقي وهو مشتعل حالياً. وليس سراً أن العرب السنّة هناك يرفضون ما يسمونه «الهيمنة الإيرانية».
وقوف «حزب الله» إلى جانب النظام السوري ليس غريباً ولا مفاجئاً. خسارة المعبر السوري تعني للحزب خسارة عمقه الإستراتيجي، وشريان الحياة سياسياً وعكسرياً. الخسارة تعيد الحزب لاعباً محلياً بعد سنوات تحوّل فيها لاعباً إقليمياً بارزاً. من دون العمق السوري سيكون من الصعب على الحزب خوض حرب جديدة ضد إسرائيل. سيخسر جزءاً كبيراً مما يسميه القدرة على الردع أو توازن الرعب.
روسيا أيضاً لا تستطيع التسليم ببساطة بخسارة موقعها في سورية. المسألة تتخطى وجود قاعدة بحرية روسية على المتوسط. الوجود في سورية هو وجود في النزاع العربي – الإسرائيلي. وجود على مقربة من إسرائيل. من دون وجود في سورية تصبح روسيا بعيدة، ثم إن الجنرالات الروس يتذكرون بالتأكيد أن أسلحة بلادهم هزمت في العراق ثم هزمت في ليبيا.
عبر سورية تعبر روسيا إلى قلب المنطقة. وجودها هناك يحفظ لها حداً من القدرة على الحضور والممانعة. وعبر سورية يعبر «حزب الله» إلى العراق وإيران. وعبرها تعبر إيران إلى شواطئ المتوسط.
الحاجة إلى المعبر السوري توفر لدمشق حلفاء في المعركة الحالية. لكنها توقعها في الوقت ذاته في خضم تجاذب إقليمي ودولي على أرضها، لا تملك مفاتيح تقرير مساره ومصيره. ليس سهلاً الحديث عن صفقة توزع الأرباح والخسائر والضمانات والضمادات. حتى الساعة يمكن القول إن القدرة على الغرق في الأزمة تفوق القدرة على الخروج منها. هذا يصدق على المبارزة الإقليمية والدولية، وعلى المواجهة الداخلية أيضاً. إنها معركة كبرى قد تفوق قدرة سورية على الاحتمال. معركة بهذه الشراسة الداخلية والتجاذب الإقليمي والدولي حولها، قد تؤدي إلى تفجير سورية وإغراقها في حرب أهلية مديدة.