القوة العظمى الوحيدة في العالم التي سبق أن أنهت التاريخ وشكلت النظام العالمي في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي، انحدرت إلى مرتبة «القوة التي لا يمكن الاستغناء عنها»، حسب التعبير الحرفي لرئيسها باراك أوباما.. القوة التي لا يمكن إهمالها او إغفالها او تنحيتها جانباً، القوة الهاربة من الشرق الأوسط، غير مأسوف عليها.
اميركا التي تحدث عنها أوباما في خطابه السنوي امام الكونغرس امس، تستعيد سيرة المانيا ومثالها بشكل حرفي مثير للذهول: الدولة التي تحوّلت الى امبراطورية مترامية الأطراف والقواعد، والتي كادت تسود العالم كله وتفرض عليه مصالحها وثقافاتها وسياساتها وأنماطها، تتواضع تحت وطأة الأكلاف الانسانية والاقتصادية لمشاريعها التوسعية، وتكتفي باختيار مناطق نفوذها وفق قدرات جيشها على الانتشار واستعدادات شعبها على التحمل ومؤسساتها على الإنتاج.
هي نبذة عن الشخصية الاميركية المعاصرة والمستوحاة من التجربة الالمانية، التي لا تزال قوة اقتصادية عالمية مهمة ذات قدرات إبداعية استثنائية، لكن مخيلتها السياسية محدودة الآن بالأفق الاوروبي والهامش الروسي المفتوح على نفوذ الدولة الجرمانية المتفوقة وسلعها واستثماراتها وخدماتها المتقدمة على كل ما انتجته روسيا السوفياتية ثم دمّرته في العقدين الماضيين.
قال أوباما في خطابه إن اميركا اختارت ان تكون قوة على المحيط الهادئ، قوة باسيفيكية، تواجه التطور الصيني الهائل وتتحداه وتحاول ان تحتويه. وقد أعدت العدة الاقتصادية والعسكرية والسياسية والفكرية لمثل هذه المهمة التي لن يكتب لها النجاح على الأرجح. تخطت الصين مفهوم الاحتواء الذي نجح مع الاتحاد السوفياتي، لأنها حفظت الدرس الروسي جيداً وسدت الثغرات التي يمكن ان يتسلل منها الأميركيون الى دولتها العظمى.
أعلن أوباما ان موسم الهجرة الاميركية من الشرق الاوسط يسير بخطى ثابتة لا رجعة فيها. لن تترك اميركا وراءها دولة نووية في ايران، هي تفضل الحل السياسي لكنها لا تستبعد الحل العسكري. وتترك للإيرانيين ان يحددوا خيارهم. ولن تترك اميركا اسرائيل الا كدولة متفوقة عسكرياً على جميع جيرانها العرب، ودولة غير مطالبة بمنح الشعب الفلسطيني بعض حقوقه الوطنية، بل وغير مدعوة الى الجلوس معهم على طاولة المفاوضات التي نسي الرئيس الأميركي ذكرها للمرة الاولى في خطابه السنوي وأغفل حتى الإشارة الى حلّ الدولتين الذي طالما تغنى به الأميركيون منذ أن خرجوا في حملتهم العسكرية الأخيرة على العالمين العربي والإسلامي في مطلع القًرن الحالي.
الربيع العربي الذي حيّاه اوباما في خطابه وخصّ سوريا بوقفة تأمل خاصة، هو احد مبررات الاستمرار في هذه الهجرة الاميركية. وهي مدعاة فخر للثوار العرب الذين صنعوا وما زالوا يصنعون هذا التاريخ، ولغيرهم من المقاتلين الذين أجبروا أميركا على الخروج من الشرق الاوسط، ولغيرهم من الشعوب التي تجعل من اميركا قوة يمكن الاستغناء عنها بعد فترة وجيزة.