ارسل الزميل المبدع سامح المحاريق تعليقا جريئا على مقالة اللواء المتقاعد محمد البدارين، المنشورة على “الاصلاح نيوز”، والتي تسببت بردود فعل واسعة، لما تضمنته من رؤية تحليلية عميقة للملامح الاختلافية بين عهد الملك عبد الله الثاني -اطال الله في عمره- وعهد الملك الحسين بن طلال -رحمه الله-.
تعليق المحاريق ينطوي على افكار هامة من شأنها اثراء النقاش حول ما كتبه اللواء البدارين، وتكمل صورة في المشهد السياسي المحلي، لذلك،ارتأت “الاصلاح نيوز” نشر التعليق على شكل مقالة مستقلة بعد الاستئذان من صاحب التعليق.
وتاليا نص التعليق:
كتب: سامح المحاريق:
سامح المحاريق
تشرفت بلقاء جلالة الملك لمرة واحدة في الديوان الملكي ضمن جمع من الشباب لمناقشة العديد من الموضوعات، ولما كنت لفترة من الزمن أكتب ما يدعى في العمل الصحفي بالبروفايل، أتحت لنفسي فرصة أن أتأمل شخصية الملك عن قرب، وأن أضع مجموعة من الملاحظات، فهو شخصية تتمتع بالكاريزما، يميل إلى الصراحة والبساطة في الحديث، منفتح بطبعه، صبور، وهذه سمة جوهرية في شخصيته وإن كنت سأعود للحديث عنها في مكان لاحق من التعليق، ومع أن هذه المسائل تهم المواطن الأردني إلا أن الإعلام في الأردن يفشل في أن يعكسها بالطريقة الصحيحة، فالجميع يتحدث عن الملك والبعض يختبئ وراءه، وكما يقول الملك نفسه فإن البعض لا يتوانى عن إصدار وترويج الشائعات التي تمسه وعائلته دون أن يكون لها أصل أو سند، كما أنها أصلا متناقضة مع شخصيته من حيث المبدأ.
بخصوص الشائعات فيجب الانتباه لحقيقة أن الأردن يفتقد لوجود نجوم في الفن أو الرياضة أو الأدب، نجوم من العيار الثقيل، celebrities بالمعنى الدارج في الصحافة الغربية، والعائلة المالكة بشكل عام هي محط انتباه ومتابعة جميع الأردنيين، والأردني يهمه أن يعرف أخبارها وأن يتظاهر بمعرفتها ولو كان ذلك على سبيل الفضول والاستعراض، وهذا المزاج الشعبي جعل أي شخص يمكنه أن يدعي ودون التزام بالحد الأدنى معرفته بالحديث الذي دار بين الملك ورئيس المخابرات أو رئيس الديوان الملكي بأدق تفاصيله وكأن كان حاضرا الجلسة، مع أنه لم يقابل الملك أو رئيس المخابرات في حياته، هذه مشكلة تواجهها العائلة المالكة في الأردن، ولكن قلة تضعها في سياقها الصحيح.
إن الملك بالنسبة لأي أردني، أعني الملك كشخص، هو ما يسمعه وما يراه المواطن، ولأن ذلك عادة ما يأتي من مصدرين، الأول رسمي، يتمثل في الدوائر المعنية بالإعلام في الأجهزة الرسمية، والثاني، غير رسمي، يتمثل في حزمة واسعة من الآراء والانطباعات والأفكار والشائعات تدور حول شخصيته، وهي تختصر كثيرا من شخصية الملك وتجعلها تفتقد طبيعتها الإنسانية، بعضها الملك مسؤول عنه، فهو كما ذكرنا شخص صبور، وكذلك موضوعي، وذلك يدفعه إلى إعطاء الفرصة حتى النهاية وعدم التعجل في اتخاذ القرارات إلا بناء على معلومات موثقة والمشكلة في بعض الظروف لا يمكن توافر هذه المعلومات، ويوجد اختلاف في الشخصية بين الملك الراحل الحسين والملك عبد الله الثاني، أجدني مضطرا للتوقف عندها لبعض الوقت، فمن ناحية أتت المرحلة الأولى التكوينية في حياة الملك عبد الله في ظروف معقولة تضمن له أن ينمي الثقة في الآخرين وأن يتفاعل بايجابية وندية مع زملائه سواء في المدارس أو الجامعات التي ارتادها، بينما الملك الحسين، فإنه تولى الحكم في مرحلة مبكرة من عمره بعد أزمة عائلية وفي ظل وجود جناح قوي للعائلة في العراق، وفي غضون فترة وجيزة بدأ يواجه المشروع الناصري بطبيعته التوسعية التي لم تخفي مطامعها في إدخال الأردن إلى الحديقة الخلفية للسياسة المصرية، وتبع ذلك محاولة الانقلاب التي شجعها ودعمها عبد الحميد السراج رجل عبد الناصر القوي في سوريا، وتركت أثرا غائرا في نفس الملك الحسين واستراتيجيته في التعامل مع المقربين منه، ونستند في ذلك لكتاب غسان زكريا “السلطان الأحمر” التي قدم فيها شهادته للقائه مع الملك الحسين بعد المحاولة بفترة وجيزة، وكذلك مذكرات جلوب باشا التي نشرت عن دار الأهلية في عمان قبل سنوات، هذه الضغوط لم تكن موجودة في الفترة التكوينية لشخصية الملك عبد الله الثاني، حيث انتقل من مرحلة الشباب إلى مرحلة النضج وتكوين أسرة خاصة بهدوء ودون أن يتعرض لمثل هذه الضغوط الكبرى، كما أنه كان متحررا من الهموم السياسية ومستغرقا في حياته المهنية بالجيش العربي، وذلك يتضح في كتابه الشخصي “الفرصة الأخيرة”، فنحن أمام شخصيتين مختلفتين قادتا إلى نهجين مختلفين، وبالتالي تولدت ردود أفعال مختلفة في الدولة والمجتمع بناء على ذلك.
لا أدعي بالطبع العلم بشخصية الملك الحسين، فمعظم سنوات عمري قبل الثامنة عشر عشتها في خارج الأردن، وكانت علاقتي تنحصر في رسالة الأردن التلفزيونية في مرحلة ما قبل الفضائيات، ومعرفتي بشخصيات عامة أردنية مقتصرة على المذيعة إخلاص يخلف، وكنت أتابع الرسالة التي يعرفها الأردنيون ممن عاشوا في الخليج من أجل يخلف، وحضرت للأردن للدراسة في واحدة من الجامعات الخاصة التي بدأت ذروتها في منتصف التسعينيات، مع توصية بسيطة من الأردنيين المقيمين بالإمارات، وكنت منفلت اللسان ومتحذلقا في السياسة، بألا أذكر الملك الحسين لا بالخير ولا بالشر، وأن انتبه من سائقي سيارة الأجرة فمعظمهم يعملون مع المخابرات، ولم أتقيد تماما بهذه الوصايا لأنني لم أتقلم من الأردن بصورة جيدة وفشلت في التعامل مع المجتمع مما اضطرني للانتقال إلى مصر لغاية استكمال دراستي، وكنت دائما أحمل حنينا للأردن لا أعرف مبرره إلى اليوم، فالأولى أن يكون حنيني إلى الإمارات التي عشت فيها معظم طفولتي ومرحلة مراهقتي كاملة، وفي السنة الأخيرة من الجامعة أتى خبر وفاة الملك الحسين، ووقتها اكتشفت أنني لا أعرف الرجل بصورة جيدة، خاصة أن الصحف والمجلات المصرية أفردت العديد من صفحاتها للحديث عن شخصيته وبعض الجوانب التي يجهلها الأردنيون، وكان المصريون، وخاصة السكندريون يعتزون بالملك الحسين وفترة دراسته بمصر، ولم أكن بالتالي أعرف شيئا كثيرا عن الملك عبد الله الثاني، عدا أحد التقارير الصحفية التي نشرتها مجلة الوطن العربي وتنبأت قبل خمس سنوات كاملة من وفاة الملك الحسين بأن ولاية العهد ستؤول للملك عبد الله، وكانت الوطن العربي وروز اليوسف المفضلتين عندي، الزميلات المصريات أبدين إعجابا بوسامة الملك الجديد، ولم أكون موقفا واضحا في تلك المرحلة، ومع تخرجي من الجامعة في العام التالي انتقلت اختياريا للأردن وليس أي بلد آخر، خاصة مع وجود فرص إما للانتقال إلى الإمارات التي لدينا معارف جيدة بها، وكان حلما لكثير من الشباب أن يحظوا بفرصة عمل هناك، أو أن أتابع دراستي في مكان ما، ولكنني في النهاية حضرت إلى الأردن.
لم أكن معنيا بالسياسة الداخلية في الأردن لأول عامين، ولكنني لاحظت أن الشائعات التي تدور حول العائلة المالكة عدا أنها كثيرة ومتنوعة، إلا أنها أيضا غير منطقية وغير متماسكة، ولا يوجد أي مبرر درامي لمن يضعونها، وكنت أكتب بصورة أعتقد أنها جيدة، ولما كان أستاذي في عالم الصحافة أحمد سلامة وزميلي ناصر قمش يضطلعان بإصدار جريدة الهلال الأسبوعية وكنت أحاول البحث عن فرصة للنشر تحترم شروطي ونزقي، ووقتها كانت الهلال تعاني من أزمة مالية وتصدر تقريبا “بمن حضر” فإنني دخلت إلى “المعمعة” وأين؟ على مقربة من أحمد سلامة – أحد أذكى وألمع الشخصيات العارفة ببواطن الأمور في الأردن والطرق الالتفافية للسياسة الأردنية- وكان كثير من رجال السياسة والدولة يهربون إلى مكتب أحمد سلامة في الهلال من أجل التنفيس والنميمية أو طلب رأي سلامة أو تحليله، وجدتني في النهاية غارقا في التفاصيل ومختنقا بها، واكتشفت وجود حلقة ما مفقودة، المدرسة السياسية الأردنية بها حجر سنمار، وقصة سنمار المهندس الذي شيد قصر الخورنق للملك النعمان وفي غمرة تباهي المهندس بصنيعه المدهش، ذكر للملك أن في البناء حجرا لو أزيح فإن كل هذا البهاء والجمال سيهوي دفعة واحدة، فما كان من النعمان إلا أن أمر بقتل سنمار.
في العلاقة بين رأس الدولة في الأردن وبين المواطنين، يوجد سنمار، وكانت رحلتي للبحث عن سنمار أو حجره فاشلة إلى اليوم، محبطة، وعبثية، ولكنني أشعر بأن الوقت اقترب من ايجاد سنمار أو السنمارات الذين استفادوا من مسألتين توفرتا في عهد الملك الحسين ولم تظهرا في عصر الملك عبد الله الثاني:
الأولى: غياب الحالة التعبوية التي صعدت سنة 1948 وبقيت في صراع فيصل – عبد الناصر والتصنيف بين التقدمي والرجعي، ووصلت ذروتها 1967 وبقيت الأحداث تذكيها وصولا إلى حرب الخليج الثانية 1991 وتبعاتها التي بقيت مؤثرة حتى رحيل الحسين، وبعدها بدأ السؤال التنموي يطرح نفسه بدلا من التعبئة، وعليه فإن اللغة التي كانت سائدة قبل ذلك لم تعد تصلح للوقت الحاضر، كما أن أحدا لم يتمكن من إيجاد لغة بديلة، ولم تعد الحنجورية أو العنجهية السياسية يمكن أن تحل شيئا، فوجد الساسة التقليديون أنفسهم يتراجعون أمام التكنوقراط الذين وجدوا الساحة خالية أمامهم وبالتالي لم تفعل الرقابة اللازمة، وكانت المسألة هي عدم القدرة على دوزنة أدوات التواصل بين جميع الأطراف الفاعلة في العملية السياسية الأردنية.
الثانية: تحول تراجيدي في موازين القوى جعلها تنحصر في يد الأمريكيين، وأدى ذلك إلى تراجع الخيارات الأردنية بصورة كبيرة، وكان الدخول في اتفاقيات السلام من قبل السلطة الوطنية، وقبول مبدأ التفاوض والاختلاف على الأولويات بين السوريين والإسرائيليين مع احتمالية الخروج بصفقة مفاجئة، كان ذلك كله يجعل إدارة الخيارات الأردنية أقل مرونة ويجعل جاذبية الدور الأردني أقل فأقل.
في هذه الحالة يأتي الاختلاف بين العهدين، وبالمناسبة ليس سنمار هو من أعاق إصلاح المصعد الأشهر في العالم، لأن اصلاحه استلزم زيارتين ملكيتين، وإن كنت أتفق مع جميع الملاحظات الأخرى التي قالها السيد محمد البدارين وهو من المطلعين بكثافة على الحالة الأردنية، وأجدها تساعدني في تفهم العديد من الأمور، ولكنني لا أفضل أن أقول بين عهدين، ولكن الأردن اليوم ينتقل إلى مرحلة جديدة غير مسبوقة في تاريخه، ويبحث عن طريق مناسب للحيلولة دون أن يؤدي عدم التوازن المفقود إلى الدخول في نفق من عدم التأكد والترقب يلقي فيه كل المستلزلمين والمتذاكين بأثر رجعي بدلوهم فيه ليصنعوا منه متاهة قوطية غير منتهية.
نقطة أخيرة تدعو للتفاؤل، ففي سنة 1995 لم أكن مهما بلغت من جرأة وقوة و(تناحة) لأكتب جميع ما قلته أعلاه، وهذه مسألة مهمة وتستحق بالفعل أن ندخل في حالة عدم توازن وأن نجتهد للوصول إلى نقطة التوازن، فهي لم تكن متوفرة بصورة لائقة وبناءة في سنة 1989 لنتوقف عندها ونتمنى التراجع لها، فالفرصة اليوم، مع أجواء الانفتاح والمصارحة تؤهل الأردن لأن يخطو لاستقرار جديد على مستوى أعلى كثيرا.