لا أعرف سببا قويا لبقاء النواب متمترسين تحت القبة، يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم، هربا من صوت الناس وممثليهم من أبناء الشعب الذين يحق لهم ان يقولوا له ارحل، بل فعلى هذا المجلس أن يرحل استجابة لرغبة الشارع الأردني العريض، وعليه أيضا أن يعتذر، مع علمنا أن مثل هذا الاعتذار (يؤسس لإساءة مستقبلية).
حين تأخر وزير شؤون الإعلام والاتصال الأردني عن اجتماع لجنة من لجان مجلس النواب، قامت قائمة اعضاء اللجنة ولم تقعد، في المقابل، حين تأخر مجلس النواب عشرات الدورات البرلمانية في عشرات الدورات عن أداء مهامه ووظائفه كما ينبغي، وحين تأخر وما زال متأخرا عن فضح زمن الفساد، لا يعتبر هذا مدعاة للمطالبة برحيله وتكريس واقع برلماني أردني جديد، مستمد من قانون انتخابي جديد، وقانون الأحزاب الجديد أيضا.
سؤال مغرق في الافتراضية: ماذا لو سجل النواب سابقة في تاريخ البرلمانات العالمية باستقالة جماعية احتجاجا على الفساد، واليد الطولى لقوى الشد العكسي، واستجابة لنداءات الناس بحل المجلس..؟، يقابله سؤال آخر: ماذا قدم مجلس النواب للشعب حتى يبقوا يصرون على البقاء تحت القبة، وكأنهم يعلنون (سنخدم الشعب رغما عنهم)..؟ هل في خروجهم من تحت القبة كشفا لعوراتهم، وتذويبا لجدار حصانتهم..؟ هل يعني هذا أن ثمة فساد من نوع برلماني..؟ الأسئلة هنا ليست اتهامية، بقدر ما هي محاولة للفهم.
مرر مجلس النواب الأردني كثيرا من القوانين ومشاريع القوانين المؤقتة والدائمة التي كشف الواقع الحالي عن كونها أدوات فساد بالجملة، أين كان المجلس حين غزت الخصخصة أركان نظامنا الإقتصادي، وحين بيعت كثير من مواردنا بثمن بخس، وحين تغول أصحاب الشد العكسي.. وحين كثير.. ربما المبرر الوحيد لغياب المجلس انه كان مشغولا بهجوم حاد على وزيرة سابقة لأنها ظهرت في صورة مع الممثل التركي (مهند)، أو ربما كان مشغولا بتوزيع غير عادل ومنصف لـ (شوال) المكسرات الذي أحضره أحد النواب شعورا مع زملائه وهم يناقشون التعديلات الدستورية الأخيرة، ربما أرادوها تعديلات دستورية بالمكسرات، لرفع منسوب رفاهية الشعب الأردني.
ما وصل له الوضع في الأردن من فساد النخب، ادى إلى بروز الجمهور الشعبي الذي شكل قاعدة أساسية للحراك العام، ليس بوصفه ظاهرة، بل باعتباره واقعا جديدا تناط به مهمة الرقابة كبديل شعبي عن مجلس النواب الذي ارتهن كثيرا لسياسات حكومية قزمت دوره، وألغت جدواه، بفعل سياسة التنفيعات الحكومية المقدمة له والمصالح الخاصة المترتبة على ذلك، وعلى امتداد عمر المجلس ما بعد الـ 1989، وإلى اليوم تولت كثير من الأسماء الحكومات المتعاقبة، والتي أوصلت جميعها بلا استثناء البلد إلى هذا المستوى من الفساد العام، ومجلس النواب لم ينجح، بل لم يحاول أن يوجه انتقادا واحدا إلى أحد رؤساء هذه الحكومات، أو يضعه تحت المساءلة البرلمانية، أو يطلب إعادة طرح الثقة، وفي موضوع الثقة، فهي تُمنح في الأردن بالكيلو.. ونص.
حين يمر كل هذا الفساد من تحت سمع البرلمان وبصره، يعني هذا أنه يعرف وتلك مصيبة، أو لا يعرف فالمصيبة أعظم، وفي الحالتين، هو (غايب طوشه)، وحين يقال لهم ارحلوا.. يغضبوا، وما غضبوا مرة لأحوال الناس، وما ابيضت أعينهم حزنا على النهب والسلب، بل كانت دوما عيونهم (حمرا)، في مطالباتهم باستحقاقاتهم ومخصصاتهم.. فيا أصحاب القبة، آن الأوان لأن تعترفوا بأن مجلس متخم بالإعطيات والتنفيعات والمخصصات والإكراميات ستبقى عينه مكسورة، فمن مدَّ يده هيهات أن يمد صوته.