رأيت جمال عبدالناصر عن قرب «نسبى بالطبع» مرتين، المرة الثانية عندما أحكيها لأحد يبدو عليه عدم التصديق فى غالب الأمر، وإذا كان واثقا فيما أقول ينهال علىّ بالأسئلة. ذلك أننى كنت وصديق لى فى إحدى دور السينما فى وسط البلد، وكان صديقى قد حصل بطريقة لا أذكرها على تذكرتين فى البلكون وكنا عادة من أهل الصالة، وأثناء العرض لكزنى صديقى فى جنبى مشيرا إلى خلفنا، والتفت فرأيت فى آخر المقاعد جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر فى ملابس مدنية، وأثارنا هذا، وإن لم تكن الإثارة التى نتوقعها فلقد كان ذلك فى الفترة الأولى للثورة، ولم يكن قد حدث ما حدث.
واقترب الفيلم من النهاية، وسارعت مع صديقى للانصراف فلقد كان لدينا ارتباط بموعد ما، وما إن كنا فى بداية السلم حتى رأينا ناصر وعامر قد وصلا إلى نهاية السلم، ثم رأيناهما أمام باب السينما وهما يدخلان سيارة صغيرة دخلها عامر إلى مقعد السائق وانطلقت السيارة من شارع سليمان باشا. وأنتهز الفرصة للمرة الألف لاحتج على تغيير اسم الشارع إلى طلعت حرب. أنا أرى أن طلعت حرب يستحق ألف شارع، بل يستحق أن يطلق اسمه على مدينة بأكملها ولتكن المحلة الكبرى أو كفر الدوار، أو يطلق اسمه على حى كامل، ذلك لأننى أرى أن سليمان باشا الفرنساوى كان من أعظم الرجال الذين قدموا لمصر الكثير.. آسف لاستخدام الفرصة للمرة الألف وأعود إلى موضوعنا.
عندما أحكى هذه القصة تنهال علىّ الأسئلة: ألم يكن معهما حرس؟ وأجيب: لا. يقول شاب حصل على رخصة السواقة من أسبوع: لكن السينما التى ذكرتها ممنوع الوقوف إلى جوارها، أقول: لم يكن هناك شارع ممنوع الوقوف فيه، إلا فى حالات خاصة، فعندما تترك سيارتك ليلا ستجد من ينبهك إلى أخذ سيارتك إلى الجراج! ويحشو أحدهم البايب كما لو كان «ستالين» فى زمانه ويقول: بدلا من أن يأتى عبدالناصر من مصر الجديدة إلى وسط البلد أليس كان أفضل لو أتى بآلة عرض – وكان ثمنها معقولا – إلى البيت ورأى الأفلام التى يريد رؤيتها. وما قاله صاحب البايب صحيح، وفعلا كان يرى – على ما قيل- فيلما على الأقل كل يوم، وقد قال لى روبير سوليه الكاتب الفرنسى المولود فى مصر والذى كتب معظم رواياته عنها إنه لا يستطيع الكتابة إلا إذا رأى ثلاثة أفلام على الأقل كل أسبوع.
ويلح أولاد العائلة لأحكى لهم عن المرة الأولى التى رأيت فيها البكباشى جمال عبدالناصر – عن بعد- وأتهرب، لكن التدلل يغريهم، وأحكى لهم أننى كنت تلميذا لشهور قليلة فى كفر الشيخ، وجاء بعض ضباط من مجلس قيادة الثورة، فرأيناهم يسيرون فى الشوارع، قاصدين أماكن لم تكن تشغلنا آنئذ، ولما ذهبوا شغلنا أمرهم شهورا طويلة، ذلك أن بعضهم رأوا القائمقام أنور السادات يرتدى «جوربا» أصفر اللون، كنا نعرف الجوارب السوداء والرمادية والبنية ونسمع عن الجوارب الكحلية والبيج، لكن لا أحد فينا سمع عن الجوارب الصفراء، وبدأ البحث عن هذه الجوارب فى محال كفر الشيخ ثم طنطا، وبعدها فى الإسكندرية والقاهرة، بل إن أحد زملائنا قال إنه طلب من ابن قريب له يعمل فى باريس أن يشترى له هذا اللون.
القصة الأولى والثانية كانتا فى السنة الثانية من الثورة أو حول ذلك.
وكنت آنئذ لا أميل إلى هذا النظام وطبعا لا أميل إلى النظام السابق، وربما كنت أفكر فى عالم مثالى لا حكومات فيه، يعمل الناس فيه لخير الآخرين، ولقد مرت سنوات طويلة قبل أن أدرك حماقة الفكرة ورغم ذلك مازال الحلم موجودا.
وبعد موت جمال عبدالناصر وهو فى الثانية والخمسين بدأت أكبر الهجرات المصرية فى التاريخ، خرج البعض بحثا عن الرزق، والبعض بحثا عن الاطمئنان، وربما خرج البعض بحثا عن الجورب الأصفر!
ومع الهجرة بدأنا نرى صور عبدالناصر فى شرفات بيوت الكويت وعلى جدران البحرين، واسمه مكتوبا على جدران الأردن واليمن و.. وبعد ثمانية أعوام من وفاة عبدالناصر كنت فى قبرص، وتوقفت ابنتى الطفلة – الآن دكتورة عقبى للأولاد- وطلبت شراء «بوستر» معروض فى فاترينة، ولأنها لم تكن تطلب شيئا اندفعت بحماس أطلب شراء «البوستر» ونظر إلى صاحب المحل بدهشة، وقال إن «البوستر» ليس للبيع بل للزينة، أو على الأصح لإعلان موقف، فلقد كان لكسنجر وأنه مطلوب القبض عليه لارتكاب جرائم كذا وكذا.. ولما عرف صاحب المحل أن الطفلة هى التى تريد البوستر سألنا عن بلدنا.. ولما عرف أننا من مصر، قال: ناصر! قلنا له: نعم! كان المحل صغيرا وليس فيه غير صاحبه قال إنه سيترك المحل ثلث ساعة، وإن علينا ألا نترك المحل، وإذا أتى زبون نقول له إن صاحب المحل سيأتى بعد ثلث ساعة.
ولما أصبحنا وحدنا أخذنا نختار أشياء ربما لنعوض على الرجل موقفه النبيل وجمعنا ما يفوق رغباتنا، وقبل مرور الوقت المحدد عاد بستة «بوسترات» أعطانا منها أربعة. وطلبنا الحساب لما اشتريناه، لكنه رفض رفضا تاما، حاولنا إرجاع ما اخترناه، لكنه رفض أيضا، وفى النهاية ودعنا باسما: ناصر!
وعرفت أن قبرص كانت تقع تحت وطأة أثقل أنواع الاحتلال البريطانى، وأنه لولا مساندة عبدالناصر ما كانت حققت الاستقلال فى هذا الوقت، وناصر هو الذى ألهم جيفارا، وتاريخ الاستقلال الآسيوى والأفريقى والعربى مرتبط بعبدالناصر.
قال لى أحد العمال البسطاء: أنا رجل عجوز، عاصرت زمن عبدالناصر، قل لى يا أخى: لماذا يهاجمون عبدالناصر؟
قلت له: لماذا لا يهاجمون عبدالناصر؟ ومصالحهم تتناقض مع كل ما دعا إليه، كان ما يشغله الإنسان البسيط: أين يسكن؟ ماذا يأكل؟ كيف يعالج؟ ولكن هذا الإنسان نفسه فى أحوال كثيرة تم غسل مخه فى حملات دعاية. كنت أرى شبابا صغارا يحمّلون أى خطأ لعصر عبدالناصر، حتى لو كان خاصا بالمصريين، لكن شمس عبدالناصر تشرق حتى فى الظلمات.
وفى 25 يناير رأيت شمس عبدالناصر.. صحيح أنه جيل لم يعرفه، وربما لم يتابعه، لكن الشمس لا تحتاج منا أن نعرفها، لذلك رأينا صور جمال عبدالناصر فى الميدان.
كنا نراقب التليفزيون وتعالت هتافات مع الهتافات، وسمعت صوت سيدة عجوز يعلو صوتها رغم الوهن: عاش جمال عبدالناصر!