بقلم : بدر الدّين بينو/
القارئ العزيز: قبل أن تقرأ هذه الأحرف، يتعين عليك أن تضع أعصابك في ثلاجة، وتحاول ـ على قدر طاقتك ـ أن تستعين بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين.
هي تحفة معمارية، ملء السمع والبصر، يحار بوصفها الواصفون، ولو كانوا أولي قوة على البيان، وكان بعضهم لبعض ظهيرا، فما شئت من أسباب القوة؛ من حيث التقانة (التكنولوجيا)، وفخامة (الاستوديوهات)، والموارد البشرية، حيث ضمت هذه القناة بين جنباتها نخبة من أمهر وأخبر رجالات الإعلام الذين كان لهم باع طويل بالعمل التلفزيوني، بل إن بعضهم كان حجر الأساس بقنوات عريقة، أثبتت حضورا على الساحة الإعلامية العربية والدولية، مثل: الجزيرة، والـ(BBC)، والتلفزيون الأردني، كالأساتذة إبراهيم شاهزاده، ومهند الخطيب، وعبدالحليم عربيات، ورامي حدادين، وأمجد أبده، وأسامة قطينة…. وهنالك آخرون كثيرون لا يأتي عليهم عدّ وإحصاء.
لا شك أن قناة الـ ATV هي احد ابرز الملفات الغامضة التي شهدتها الساحة الاردنية خلال السنوات الماضية, ملف اثار الحيرة والاستغراب، بل والفزع، بين اوساط المراقبين والاسرة الاعلامية التي تفاجأت بولادتها, الحديث عنها كان كثيرا من جهات مختلفة ومتعددة, والكل رأى فيها متنفسا للرأي الآخر, وقفزة في الحريات العامة وبديلا عن التلفزيون الرسمي الذي ابتعد كثيرا عن وجدان الاردنيين, بسبب امكاناته وموارده الضعيفة، وعدم قدرته على مواكبة التطورات الاعلامية المتسارعة.
لكن بدلا من اطلاق المحطة، جرى وأدها بإسلوب غامض، ورغم ان ملكية القناة ـ ظاهريا ـ هي للقطاع الخاص متمثلا برجال أعمال لهم سابقة في العمل الإعلامي، إلا أن الواقع الفعلي يدل بوضوح على وجود اياد خفية تدير المحطة من خلف الكواليس.
أحد المستثمرين، استطاع ضخ ما يقارب الـ 20 مليون دينار بتأسيس مختلف وحدات المحطة على وفق احدث التجهيزات، واجه معضلة مع جهات رسمية في اطلاق شارة البث التي كانت على جاهزية كاملة, ولم يُعرف لماذا تنامت وتيرة المشاكل بين مالك القناة واجهزة الدولة المختلفة، لدرجة ان الاول بدأ بالبحث عن مصادر تمويل لمحطته الوليدة من مصادر عدة لعل ابرزها محاولته الشهيرة بتحويل الشركة التي أسسها لتملك القناة وهي الشركة الاردنية المتحدة للبث التلفزيوني من شركة ذات مسؤولية محدودة الى شركة مساهمة عامة تتداول اسهمها في البورصة وتكون متاحة لكافة الراغبين بشراء او تملك اسهمها, إلا أن محاولته لم تنجح وتم رفض الطلب من هيئة الاوراق المالية التي رأت في تلك المحاولة مخالفة صريحة لتعليماتها التي تحظر عملية التحويل من شركات خاصة الى مساهمة قبل مرور عامين على التأسيس وتحقيق ارباح مالية ملموسة وليست دفترية.
تفاجأ الوسط الاعلامي بخبر توقيع اتفاقية بيع مالك قناة ATV الى شركة مسجلة في سجلات وزارة الصناعة والتجارة ، ولم تتم الاشارة من قريب ولا من بعيد الى قيمة صفقة البيع، التي بدأت خطواتها الاولى في العمل بالبحث عن حلول لتسويق المشروع المثقل بالديون, والذي بدأ الموظفون فيه سلسلة اضرابات لعدم حصولهم على رواتبهم, في البداية حصلوا على تمويل مؤقت يقدر بحوالي 7 ملايين دينار لتسديد النفقات العاجلة التي لا تقبل التأخير مثل رواتب العاملين, الا ان الحل كان ينصب على اتجاهين للخروج من الازمة, إما تصفية المشروع نهائيا او بيعه, وهنا بدأت مرحلة جديدة انصبت اساسا على تسويق عملية البيع بعد ان تم غض الطرف عن مسألة التصفية لتداعياتها السلبية الداخلية والخارجية, وتم عرض الشركة على العديد من المستثمرين المحليين والعرب, ولم تنجح تلك المحاولات بسبب تخوف المستثمرين من ضخامة حجم التزامات القناة المالية ومشاكلها الفنية والادارية, واشرفت الشركة على اعلان افلاسها ولم تدفع رواتب الموظفين الذين تجاوز عددهم الـ 300 موظف وعامل لمدة ثلاثة شهور متتالية.
هنا بدأت مرحلة جديدة في عمر القناة, ففي بداية سنة 2008 قام المستثمر طلال العواملة مالك المركز العربي للانتاج الاعلامي بالتقدم بطلب لشراء الشركة التي تملك القناة, وكان ذلك بواسطة كتب رسمية وجهت الى رؤساء جهات رسمية وحكومية معا, وبدأت عملية المفاوضات للبيع, وقدم الاتفاق على مراجعة تقييم الوضع المالي للقناة بسبب عدم وجود سجلات مالية صحيحة عن اصولها ونفقاتها وهيكلها المالي الختامي, لغياب الادارة المحاسبية السليمة في القناة عند التأسيس, وقد تم ذلك باتفاق مكتوب وجرى توقيع مذكرة تفاهم بين المركز العربي والشركة المالكة تضمنت ان تتم عملية البيع للقناة وفقا للقيمة المعدلة لصافي الاصول, اي بعد تعديل حسابات الشركة وتحديد مركزها المالي الحقيقي, فقد تم تعيين مدققي حسابات لهذه الغاية من طرف شركة عجائب ومن طرف شركة المركز العربي.
تمت هيكلة الشركة، واخرج عدد من الموظفين بهذه الحجة، مع ان عدد الذين تمت هيكلتهم بلغ 39 موظفا، الا ان الذين تم الاستغناء عتهم بلغ11 موظفا فقط،.
ومع ذلك لم يحصل العواملة على ترخيص البث، لأسباب غير منطقية الأمر الذي ألجأه لفصل الموظفين ، ما اضطرهم الى رفع قضايا عمالية تبنتها نقابة الصحفيين الاردنيين، وما زالت منذ 1/3/2010 وحتى هذه اللحظة منظورة في المحاكم الأردنية!! .. مع ان الكثير من الموظفين المفصولين قد قاسوا الأمرين نتيجة الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمرّ به المنطقة عموما، والمملكة خصوصا.
اليوم, المحطة قابعة في شارع مكة بكل معداتها وتجهيزاتها المتطورة, والمشهد العام ان هذا الاستثمار بعشرات الملايين عاجز عن ان يرى النور نتيجة فقدان الحوار المنطقي والعقلاني لحل ملف ما زال الى يومنا هذا غير واضح الامر الذي يجعل من الجهات الرسمية تبتعد عن خطوات الحل بشكل يؤدي في النهاية الى ترجمة التوجهات الوطنية في ايجاد تلفزيون وطن مكمل للتلفزيون الاردني ويحدث نقلة نوعية في هيكل الاعلام الوطني.
هل يحق لنا أن نطرح سؤالاً عن الثمن الباهظ وهل “المحطة” ضحية لصراع مراكز القوى ام نتيجة الارتباك والارتجال وغياب المؤسسية, في التعامل مع هذا الملف, وانتفاء أبسط قواعد الشفافية والنزاهة والمصداقية لحل الخلافات! ومن يتحمل هذه الكلفة الباهظة في وأد تجربة إعلامية كان يمكن أن تكفل للأردن فضائية إعلامية خاصة محترفة تمثل رصيداً مهماً للدولة والمجتمع في عصر الإعلام والعولمة والفضائيات؟
والعجيب الغريب ان الحكومات المتعاقبة صرح ناطقوها مرارا وتكرارا، ان المحطة سترى النور عما قريب، وان الأمر شبه منته .. لكن على ارض الواقع لم نر شيئا ملموسا بل … “ أسمع جعجعة ولا أرى طحنا “!