الذي يسافر مع الملكية الاردنية الى اوروبا، يعرف ان طائرات الملكية وغيرها من خطوط طيران تطير فوق فلسطين، باتجاه البحر المتوسط، وهذا هو التطبيع الوحيد الاجباري، مع المحتل الذي لا بد ان يسمح بمرور الطائرة.
لحظات وتقلع الطائرة من مطار الملكة علياء الدولي، باتجاه الغرب، تمر دقائق ُتحلق فيها الطائرة فوق عمان الجميلة، يخفق قلبك، لان عمان جميلة، فتتذكر مشادات الناس تحت فتبتسم، لان الجو في السماء هادئ، ومن في الارض ُيشوّشون على المدينة الوادعة.
تتصل الجغرافيا، جبال عمان انحداراً نحو المناطق المنخفضة من الاردن، ثم المناطق المنخفضة من فلسطين، جغرافيا واحدة، وكأنه ذات الوجه الجميل. لعن الله سايكس ورفيقه الالعن اللذين شقا جسداً واحداً. لحظات تمر تبدأ فيها جبال الضفة والقدس بالظهور.
لحظات مرت. ها هو المسجد الاقصى من السماء، وبجانبه مسجد قبة الصخرة. يلمعان في الشمس. تنسى انك في طائرة، وتنسى صوت قائد الطائرة والمضيفة الملحاحة لتأخذ صحيفة، او تشرب شيئاً ما. ماذا اشرب؟! الا ترين انها القدس؟!.
المضيفة شقراء. سحر عينيها الزرقاوين يغيب. هناك من هو اكثر فتنة. القدس. ليتها تسكت وتتوقف عن المشي بسرعة في ممر الطائرة حتى لا تضيع لحظات الافتتان. وكأن بائع الكعك يبيع كعكه عند باب العامود وفي الطائرة ايضاً، الا تسمعين. لا تسمع؟!.
مدينة الحجر، والمدينة الوحيدة التي لها روح في مدن الشرق. ها هي. لو دفعت ثمن التذكرة خمس مرات، مقابل هذا المشهد لكان قليلا، تكاد المدينة وانت تقترب من عام جديد، تنتزع روحك لتضمها اليها، ويكاد رأسك يخرج من النافذة من فرط الافتتان.
قبل ان تصل القدس، ترى مئات المستوطنات من فوق. فلل حجرية، مغطاة بالقرميد، واغلبها مرتفعة فوق رؤوس التلال. المناطق الفلسطينية العربية واضحة كالشمس. بناء قديم، والشكوى تنصب صباً. من تحت الى فوق من الارض الى السماء.
تواصل الطائرة تحليقها. لحظات تمر. لوعة اخرى في القلب. لا اعرف اين انا بالضبط؟لكنني متأكد من انني فوق مدن ساحل فلسطين. لان ناطحات السحاب والمدن الفلسطينية البحرية المحتلة تقول لك انها هنا من يافا الى حيفا الى عكا.
شاطئ فلسطين. يا لهذه الزرقة. كم من وجه بلله الماء محروم اليوم. كم من طفل عبث بقدميه في الماء، فتشققتا عبر عشرات السنين اللاحقة في المهاجر والمغتربات. هذه فلسطين. فلسطين لي ولنا. هذه ليست لكم، كدت انادي بصوت مرتفع: لكم دينكم ولي دين.
تدمع عيناك. اذ ُتوّدع فلسطين بعد لحظات. ويخطفك الزمن باتجاه الغرب. سبع دقائق تقريباً فوق فلسطين على متن طائرة اردنية. سبع دقائق تفتح جروحك كلها. فلسطين لا تغيب ولا تنسى. لا ينسى فلسطين الا الخونة. هي تسبيحي وتوحيدي وقيام ليلي.
اذ تعود الى عمان ليلا بعد ايام تأخذك الطائرة عبر نفس الطريق، لكنك هذه المرة تدخل فلسطين والظلام فوق البلاد، لولا اضاءات البيوت. انارات الاسرائيليين قوية. سراجات الفلسطينيين نورانية. تقرأ في سرك «والضحى» وتندم لانك تبدو مثل عابر طريق.
يرد الاقصى على ندمي في السماء ويقول: لست عابر طريق!.
الدستور