حضرت قبل أشهر أول تحرك شعبي معارض يقام في المفرق, وقد وصلت قبل بدء التحرك بحوالي ساعة ثم أمضيت أكثر من ذلك بعد انتهائه, متسائلاً وسائلاً ومستمعاً لأحاديث الناس من المشاركين والخصوم والمتفرجين. وبعد ذلك بأسابيع حضرت جانباً من تحرك “سلحوب” ولكن هذه المرة أمضيت كل الوقت داخل القرية مع المتفرجين والخصوم.
أرى أن عليّ أن أقدم شهادتي لعل ذلك يكون مفيداً:
أولاً وخشية من إساءة الفهم, أبادر للقول أنني ضد الاعتداء على أي مجموعة تريد التعبير عن رأيها وموقفها, وضد الاعتداء اّلأخير حكماً, غير أن الأمر في المفرق وفي سلحوب له جوانب أخرى ينبغي على حزب كبير مثل الاسلاميين أن يأخذها بالاعتبار, لأن الأمر هنا يتصل بالناس أي بالجمهور وليس بالسلطة وأجهزتها.
فإذا كان من حق الحزب المعارض الكبير أن يمارس شتى أشكال الضغط والمناورة والتضخيم والدعاية واستغلال الفرص والظروف مع السلطة باعتبارها خصماً سياسياً, فإن التعامل مع الجمهور له أخلاقيات عمل مختلفة تماماً.
لقد رأيت في كل من المفرق وسلحوب أن قطاعاً واسعاً من الجمهور له موقف وفهم خاص لما يجري في البلد وفي منطقتهم. وفي سلحوب بالذات رأيت الناس, وخاصة الكبار منهم, محرجين من فكرة أن يُعتدى على “ضيوف” قريتهم, لكنهم كانوا يتمنون لو أن الضيوف ومضيفيهم تفهموا واستجابوا للرجاء بعدم عقد اللقاء, كانوا يقولون: إننا لا نعتب على “الجُهّال” بقدر عتبنا على منظمي الاجتماع وضيوفهم.
في المفرق, والحديث هنا عن التحرك السابق, وبمجرد خروج المصلين من المسجد, غادر الجمهور الى جهة أخرى, فيما التزم عشرات الشباب من دعاة المسيرة بمسيرتهم كما هو مخطط لها, بعد أن اعترضتهم مجموعة محدودة سرعان ما فرقها الأمن. ولكن النشطاء للأسف لم يستمعوا الى انطباعات الناس الآخرين من غير الخصوم, إن أكثر ما كان يؤلم بالنسبة لواحد مثلي يدعو الى ويؤيد التغيير والاصلاح (مع أني لا أحب هذه الكلمة الأخيرة بعد أن انتهكت بشدة), أن المشاركين في المسيرة افتقدوا الصلة مع كل الجمهور واعتبروه خصماً, وهو ما جعل كل مسيرتهم تتميز بالكثير من التشنج وانعدام الثقة بالمحيط, وتفرقوا مسرعين. وربما نقلوا الى تنظيماتهم أنهم حققوا إنجازاً, بينما هم في الواقع خسروا.
إن من واجب القوى السياسية أن تنتبه الى المحيط الذي تعمل فيه, وقد يكون الاسلاميون بعد حادثة المفرق الأخيرة, ابتهجوا بالكسب السياسي الذي حققوه كطرف معتدى عليه, ولكن ذلك صحيح في العاصمة فقط, بحكم منطق العمل السياسي في البلد, حيث لا مانع من استثمار الحدث. وكما أشرت قبل قليل فإن أخلاقيات العمل تجاه السلطة تتيح ذلك, لكن ما يؤلم أن هذا الكسب السياسي يأتي على حساب سمعة جمهور واسع من الأردنيين خارج العاصمة.
اسمحوا لي التذكير بحادثة أخرى جرت في المنطقة ذاتها, فقبل أشهر حاول الاسلاميون إقامة مهرجان للتضامن مع “الثورة” السورية في قرية “جابر” الحدودية, وحينها عقد أهالي المنطقة من بدو السرحان اجتماعاً رفضوا فيه عقد الاجتماع لأسباب ذكروها, ووقتها استجاب الاسلاميون ونقلوا مهرجانهم الى “تحت جسر المفرق”, وتجنبوا الاحتكاك مع الناس, وهو الأمر الذي لو حصل لتشوهت صورة جمهور آخر من الأردنيين خارج العاصمة.
أيها الاخوة, هناك ما هو غير منطقي تماماً, فالمفرق (بما فيها البادية الشمالية) هي المحافظة التي تضم النسبة الأكبر من المتضررين من النهج الحكومي الاقتصادي والاجتماعي, بدليل أنها الأكثر فقراً على مستوى المحافظات, وفيها العدد الأكبر من جيوب الفقر, وهذا يعني افتراضاً أنها تضم الناس الأكثر استفادة من التغيير والاصلاح, ومن المحزن اليوم, وعلى ضوء سلوك دعاة الاصلاح, أن أهل تلك المحافظة المظلومة لم ينلهم منه إلا الاساءة… والله من وارء القصد.
ahmadabukhalil@hotmail.com