تحمل اسم “قرية”، لكن واقعها ينطق بتسميات أكثر تعبيراً عن حالها المؤلم، فهي بقعة استبعدت من الزمان والمكان وأجندات الجهات المعنية، لتكون بؤرة بؤس وحرمان، تجتمع فيها ألوان من الفقر والبطالة.
في بقعة تفتقر لأبسط مقومات العيش، حيث الجوع والمرض والجهل وأحلام تذروها الرياح، أصبح بقاء قاطنيها على قيد الحياة نتيجة لسبب واحد فقط هو وحسب تعبيرهم أن “أجلهم لم يحن بعد”.
على أن أحجية بقاء غالبية سكان قرية المشرفة في محافظة المفرق على قيد الحياة وعدم خلاصهم مما يصفونه بـ”حالة الأحياء الموتى” يكمن حلها، بأن خياراتهم كانت قد انتهت عند اعتاب الخيم التي نصبوها، على أمل تحويلها إلى منازل بعد أن يستقروا في المنطقة التي بالكاد تؤمن لهم المأكل والمشرب، ليصبح حلم امتلاك بيت العمر كابوسا مؤلما.
فالقرية التي تقع ضمن قضاء الخالدية في محافظة المفرق، شكلت لانخفاض أسعار الأراضي فيها خلال العشر سنوات الماضية، مقصدا للفقراء الحالمين بامتلاك بيت، وفيها أنفقوا مدخراتهم على شراء أرض لم يتجاوز ثمن الدونم الفي دينار.
إلا أن سعيهم لتحقيق حلم امتلاك بيت بأقل تكلفة انتهى بنصب “خيمة العمر” بعد أن وقعوا فريسة الفقر والبطالة ونقص الخدمات التي حولت البلدة بحسب وصفهم إلى منطقة “منكوبة” لا تصلح للعيش.
ويبلغ تعداد سكان القرية 7 آلاف نسمة، بينهم 1500 من حملة الوثائق الفلسطينية، فيما تشكل نسبة الموظفين سواء في القطاع الحكومي أو الخاص من إجمالي السكان حوالي 11 %، وفق إحصائيات أعدتها جمعية المشرفة الخيرية.
وتشير الإحصائيات ذاتها إلى أن غالبية السكان، هم عمال مياومة في المزارع القريبة على شكل متقطع بحسب مواسم الزراعة، وبأجرة لا تزيد على 8 دنانير يوميا، فيما يبلغ متوسط عدد أفراد الأسرة 8 أشخاص.
أما على صعيد الخدمات الصحية فيخدم البلدة مركز صحي أولي، لا تتجاوز أوقات عمله ساعتين يومياً، في الوقت الذي يعاني فيه وحسب السكان غيابا للأطباء بشكل دائم، ونقصا في الأجهزة الطبية والأدوية، ما يضطرهم إلى التوجة للمراكز الصحية الشاملة في بلدة الخالدية التي تبعد عنهم قرابة 6 كيلومترات.
ويشتكي السكان من تدني مستوى التعليم في القرية، حيث النجاح التلقائي دون حضور الطلبة إلى المدارس، وهو ما يشكل قاعدة التعليم بحسب أولياء أمور أكدوا أنهم تفاجأوا بنجاح أبنائهم رغم غيابهم عن المدرسة طوال العام الدراسي.
أما سكان القرية من حملة الوثائق فمعاناتهم لا تقف عند حد؛ فهم محرومون من أية خدمات تقدمها أجهزة الدولة، أو حتى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، التي يحلم السكان بأن يعلو علمها أحد أبنية القرية، إيذانا ببدء تواجدها كمنظمة تقوم على رعاية هؤلاء اللاجئين.
فيما تبرر الناطق الإعلامي باسم “الأونروا” أنوار أبو سكينة الواقع المرير لهؤلاء اللاجئين بعدم وجود مخصصات مالية لهم، مؤكدة حرص الوكالة على تقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين في المخيمات.
إلا أنها أكدت في نفس الوقت أن الأونروا قامت مؤخرا بافتتاح مكتب فرعي لها بمحافظة المفرق، ما يعني متابعة اللاجئين وأوضاعهم.
وتشير أبو سكينة إلى أن على حملة الوثائق التوجه إلى مكتب “الأونروا” الفرعي في المحافظة، وتزويدهم بالبيانات اللازمة، إضافة إلى احتياجاتهم، حتى يتسنى تدارسها ومتابعتها لتقديم الخدمات اللازمة لهم.
وأبدت “الأونروا” استعدادها لبحث سبل مساعدة اللاجئين في “المشرفة” في تأمين معونات لتحسن مستوى معيشتهم، مشيرةَ بذات الوقت إلى توجهها لتقديم مساعدات غذائية لهم، بعد دراسة الحالات التي تنطبق عليها معايير “الأونروا” في تقديم الطرود الغذائية كل أربعة أشهر.
كما أشارت أبو سكينة أن الوكالة لا تقدم غير الخدمات الصحية الأولية، مبينةً ان الأمور المعقدة في الخدمات الصحية لا تقع ضمن مهامها، ما يبقي العديد من المرضى ممن تستدعي حالتهم عمليات جراحية، تحت رحمة تأمين تكاليف العلاج من متبرعين، كون جميع المؤسسات الرسمية لا تضعهم من بين المنتفعين من الخدمات الصحية في المملكة.
عليا الجبارات (أم عصام) من حملة الوثائق وجدت في المشرفة فرصة للعيش في بيت لا يطرق مالكه نهاية الشهر الباب طلبا للأجرة، بعد أن منحها زوج ابنتها البيت لتعيش فيه برفقة زوجها المريض وحفيدتين تقوم على رعايتهما، بعد أن فقد والدهما في العراق منذ ما يزيد على العشر سنوات.
تقول الستينية التي قدمت من الرصيفة إلى المشرفة “تراكمت علينا أجرة البيت بعد أن عجز زوجي عن العمل بسبب المرض، وقد طلب منا صاحب البيت المغادرة”.
وتضيف “لم نعرف أين نذهب، حتى عرض زوج ابنتي علينا الإقامة في هذا المنزل الذي هجره بسبب بعده عن المدينة”.
وتتابع، وهي تحدق في المنزل المتهالك “لم يكن أمامنا سوى المجيء والقبول بحثا عن السترة”.
وتفترش أم عصام وزوجها وحفيدتاها في البيت المكون من غرفتين الأرض، لا تجد ما يحميها وعائلتها من برد الشتاء أو حر الصيف، وتقول بتعبير بسيط “الدار بدها دار”.
وعلى عتبة بيت تفوح منه رائحة الفقر، تكابد أم عصام لتأمين قوت الأسرة اليومي، فيما تعجز عن تأمين العلاج لزوجها الذي يعيش طريح الفراش، نتيجة لمعاناته المزمنة مع أمراض تهتك الأنسجة وقصر الكلى، إضافة إلى الضغط والسكري.
كما تجد نفسها عاجزة عن تأمين علاج حفيدتيها آيات الضريرة وفرح التي تعاني ضمورا في الدماغ وتعددا للإعاقات، بحسب تقرير طبي رسمي بحوزة “الجدة”.
تقول أم عصام “طرقت جميع الأبواب، من أجل علاج أبي عصام والطفلتين ولم أجد من يساعدني”، وبحسبها “أغلق الباب في وجهي بعد أن أخبروني أن الجهات الرسمية لا تمنح الغزيين إعفاء للعلاج”.
وتصف حياتها في المشرفة وهي تحدق إلى زوجها وحفيدتيها بقولها “عيشة من قلة الموت”، وتقول متمنية “لو كان أبو عصام يقدر على العمل واستطعنا دفع أجرة بيت لبقيت في الرصيفة”.
وتمثل الخيام ما نسبته 40 % من بيوت القرية، بعد أن عجزوا عن البناء في الأراضي التي اشتروها بكامل مدخراتهم.
سليمان أبو زر ( 45 عاما) والذي يحمل الرقم الوطني يعيل أسرة مكونة من خمسة أطفال وزوجتين بدخل يبلغ 180 دينارا يتقاضاه من صندوق المعونة الوطنية.
أبو زر لا يستطيع العمل لبتر في أحد أطرافه نتج عن انفجار لغم اثناء إقامته في منطقة الأغوار، في حين يؤكد أن مشكلة المواصلات تشكل العائق الكبير أمام أهل البلدة، موضحاً أنه يتعذر عليه التنقل في تأمين حاجات أطفال أو خيمته.
أمام خيمة أبو زر كانت تلهو ابنته فرح ذات السبعة أعوام على أرجوحة تتدلى من خشبة تستخدم “منشرا” للملابس المغسولة.
فرح طفلة يعتريها الخجل من الغرباء بسبب عدم اعتيادها على رؤيتهم، تقصدت وبانسحاب طفولي الابتعاد تدريجيا عن فريق “الغد” الذي تواجد في المنطقة، فهربت مسرعة بدون الالتفات إلى الوراء باستثناء نظرة أخيرة قبل الهروب، ملؤها الخوف الخجول.
السؤال عن تصرف الطفلة فرح كانت إجابته لدى أحد أعضاء جمعية المشرفة الخيرية والذي أوضح أن الأطفال في القرية غير معتادين على رؤية من أسماهم بـ”الناس الحضر”، ما يشعرهم بريبة وخوف منهم.
فرح التي استبدلت طفولتها بحياة البؤس والحرمان، لا تخفي عيونها ابتسامة أمل من أن زوار القرية بين الفينة والأخرى يأتون لنقلهم إلى منزل من طوب يقيهم برد الشتاء وحر الصيف.
وينبه أبو زر من تفاقم الحالات المرضية التي يعاني منها الأطفال عادةً، نتيجة عدم وجود وسيلة مواصلات، ويضطر السكان إلى السير مسافة 8 كيلومترات للوصول إلى الشارع الرئيسي، ومن ثم الانتظار لحين تأمين ما ينقلهم إلى أقرب مستشفى من أجل معالجة المريض.
على أن الناطق الإعلامي باسم هيئة تنظيم قطاع النقل العام إخلاص يوسف، أبدت استعداد الهيئة بمتابعة المخالفين من سائقي الحافلات الذين لا يلتزمون بمسارهم والوصول إلى المشرفة.
وأضافت يوسف أنه سيتم التنسيق من خلال مكتب الهيئة في المفرق، من أجل الوقوف على الأمر ومتابعته ميدانيا، للمساهمة في تحسين أوضاع أهالي المنطقة.
وشددت على أنه وحال تبين عدم التزام سائقي الحافلات بمسارهم من حيث الوصول إلى القرية، فإن الهيئة ستعمل على منح تصاريح استثنائية لحفالات أخرى بشكل مؤقت لتوفير وسائل النقل إلى داخل القرية.
وأشارت اليوسف إلى عزمها القيام بجولة ميدانية من أجل تقييم احتياجات البلدة من وسائط نقل ومخاطبة الجهات المعنية حسب الحاجة.
وبالعودة إلى أبو زر فإن أكبر طموحاته تتلخص في وصول الماء والكهرباء لخيمته، التي ماتزال تضاء بأقدم وسيلة للإنارة وهي “فانوس الكاز”، فيما يستخدم الحطب للتدفئة، حيث يقضي نهاره في جمعه بعد أن عجز عن شراء “الجفت”، الذي أصبح وعلى حد تعبيره “للأغنياء فقط”.
وسعيا منه لتأمين أبسط احتياجاته، يقوم بزراعة الأرض المحيطة بخيمته ببعض المزروعات الموسمية، كالفجل والبصل والجرجير والسبانخ، غير أن موجات الصقيع الأخيرة، أتت عليها، تاركة أبو زر في حسرة على المحصول الذي يعتبره حلمه الأخضر في الصحراء القاحلة.
وينتقد أبو زر عدم شموله بمشروع سكن كريم الذي تقدم له عدة مرات، مشيراً إلى أن المشروع في قرية المشرفة لم يشمل سوى خمسة منازل رغم مئات الخيام وبيوت الصفيح المنتشرة.
وتقر مديرية تنمية البادية الغربية في المحافظة مها النعيمي معاناة أهل البلدة، مضيفةً أن قضاء الخالدية الذي تقع فيه بلدة المشرفة مصنف ضمن الأماكن الأشد فقرا، ما يستدعي تكثيف جهود المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص، في تأمين المساعدات لقاطني تلك المناطق.
وبحسب النعيمي، فإن أوضاع سكان القضاء تقتضي زيادة عدد الطرود الغذائية، ليضاف إلى ما تقدمه مديرية التنمية الاجتماعية من مساعدات حسب إمكاناتها المتواضعة.
وتدعو النعيمي، مؤسسات المجتمع المحلي، إلى التوجه لمناطق جيوب الفقر، وتقديم النصح والإرشاد لأهالي تلك المناطق، من أجل تأهيلهم إلى أسر منتجة، ما يضمن تسهيل أمورهم المعيشية.
كما تقترح النعيمي العمل على تسهيل قروض صغيرة، من خلال المؤسسات المعنية، لغايات تشغيل الأسر الفقير عبر مهن يدوية، من شأنها الحد من مشكلة الفقر والبطالة.
وفي قصة أخرى من قصص البؤس، تقيم كامله (أم عماد) في منزل متهالك بلا أبواب، وتفصل حصيرة بين فراشها المتواضع وأرضية المنزل المكونة من التراب.
ويعمل زوج أم عماد عامل مياومة ويعيل أسرة مكونة من خمسة أفراد، بينهم طفل يعاني من شلل دماغي ويحتاج إلى علاج طبيعي لأطرافه السفلية.
تقول “كنا نأخذ عماد للعلاج في مركز تربية الخالدي، إلا أن بعد المسافة وضيق الحال أجبرنا على عدم المراجعة، ليبقى بدون علاج”.
وتحصل الأسرة على مبلغ 45 دينارا من صندوق التنمية الاجتماعية شهريا للطفل المريض، تؤكد أم عماد أنها لا تكفي أجرة المواصلات للمراجعة به وعلاجه.
وتناشد أم عماد الجهات المعنية، بالنظر إلى حال ولدها لتأمين العلاج له، لاسيما أن أياما تمر على العائلة تفتقد فيها للمكونات الأساسية للعيش الكريم، مطالبة بإنقاذ حالهم مما وصفته بالموت البطيء.
وككافة المنازل البدائية إلى جانب الخيم في القرية التي تشترك بعدم وجود أبواب لها مكتفين بسائر قماشية، تفصل داخلها عن خارجها، يفاخر اهل القرية بعدم وجود لصوص في قريتهم الآمنة، مشيرين أن اللصوص يحظرون على أنفسهم الاقتراب من هذا المكان الذي لا يجدون لهم رزقاً فيه بل يحملهم عبئاً إنسانياً في تقديم ما يملك من شدة الفقر الذي يشاهده.
شعارات كثيرة رفعت وهدرت بها حناجر الجهات المسؤولة عن تنمية البادية، والمناطق النائية، خطط تنموية رقصت على أنغامها موازنات صرفت، ولكن دونما فائدة، ما ولد أسئلة بلا نهاية عن مصيرها ومرساها، ولربما كان الجواب في المشرفة حيث “الأحياء الأموات” بفعل الفقر القاتل.