“المطلب (أو الشعار)” الثابت, الدائم, للشعب في الأردن هو مكافحة الفساد, أو محاربته, أو القضاء عليه.
وهذا المطلب “إجماعي”, أي يجمع عليه الأردنيون كافة; حتى “أرباب الفساد”, ولو على سبيل “المجاملة” لضحاياه, أي لضحاياهم, يلعنونه ويذمونه, ولا يجدون غضاضة في الانضمام (بألسنتهم) إلى الداعين إلى مكافحته, وكأنهم يعلمون علم اليقين أنَّ القضاء عليه هو أمر من دونه خرط القتاد, وأنَّ الحرب عليه لا تضعفه, بل تقويه.
ولمطلب “القضاء على الفساد” عندنا “خصوصيته الثورية”; فهذا المطلب يبدو “صغيرا” إذا ما قورن ببعض مطالب الحراك الشعبي في بلاد عربية أخرى; كما يبدو “بسيطا”, “سهل المنال”, وفيه من “الأخلاق” أكثر مما فيه من “السياسة”, ويشبه “خلافا في الرأي (بين الشعب والحكومة) لا يفسد للود قضية”; لكن يكفي أنْ تَعْرِف, وتُعَرِّف, “الفساد” الذي تريد “القضاء عليه”, وأنْ تتوفر على كشف واكتشاف “الوسائل” و”السبل” و”الطرائق”, حتى تتوصل إلى استنتاج مؤداه أنَّ “القضاء على الفساد” هو أمر, أو مطلب, أو شعار, تضيق به كل مشاريع (وخطط وجهود ومساعي) الإصلاح, ولا يمكن الوصول إليه إلا من طريق “ثورة تلد ثورة”; فإنَّ في هذا “المطلب الصغير البسيط” تكمن معان كبيرة عظيمة.
ولو كان لأردنيٍّ ناقم على “الفساد نقمة المؤمن على إبليس أنْ يُعَرِّف “الفساد” لسمعته يقول (في معرض تعريفه له) إنَّ “الفساد” على نوعين اثنين, النوع الأول هو الفساد عندنا, والنوع الثاني هو سائر الفساد (أو سائر أنواعه).
“الفساد”, لغةً, هو التلف والعطب والخلل ومجاوزة الصواب والحكمة.. ويمكننا أن نرى, من عَيْن هذا المعنى اللغوي, الفساد في كل شيء.. في الحكومات والحكام, في العقول والمشاعر, في الأفكار والعقائد, في الأكل والشرب.. حتى في “الجوهر” من العلاقة الإنسانية يكمن شيء من الفساد; فلقد تحوَّل الفساد إلى أسلوب عيش, وطريقا إلى كل ما نبتغي من أشياء في حياتنا, وكأننا لا نستطيع العيش إلا فيه وبه.
بيد أنَّ هذا المعنى اللغوي لا يَصْلُح إلا حجابا, به يُحْجَب عن أبصارنا وبصائرنا “المعنى الواقعي ¯ التاريخي المخصوص” للفساد عندنا, والذي لو اجتهدتُ في شرحه وجلائه لقلت إنَّ “الفساد”, الذي نعاينه, ونعاني ويلاته, هو “الثراء (المادي أو المالي) المتأتي لذوي السلطة من طريق غير مشروعة, بحسب شريعة الثراء (أو الربح) في النظام (الاقتصادي) الرأسمالي”; ف¯ “رب العمل”, أو “الرأسمالي”, يثرى من طريق “الربح”, الذي لا أرى من مَصْدَر له غير ذاك الجزء من رأسماله والذي ينفقه على هيئة أجور للعمال; فالمال الذي ينمو من هذه الطريق, ومنها فحسب, هو “الثراء الشرعي” , بحسب شريعة النظام الرأسمالي.
“السلطة” عندنا, وعلى أهميتها المعنوية, ليست بذات أهمية إنْ لم تَعُدْ على صاحبها بالثراء (المادي أو المالي).
وهذه الظاهرة هي النتاج الحتمي لتحول “رجال الدولة” من “موظفين” إلى “مُلاَّك فعليين للدولة نفسها”, بأراضيها ومواردها المالية والاقتصادية كافة.
“أراضي الدولة”, والتي هي كل أرض لا يملكها (ملكية قانونية) شخص, أو جماعة, إنما هي ملك للشعب, لا ينازعه في ملكيته لها فرد, أو عشيرة, أو قبيلة, أو أي جماعة من المواطنين, ولا تنتقل, بملكيتها القانونية, إلا من طريق “البيع والشراء”, على أن تستوفي “صفقة البيع” شروطها وشرعيتها, شأنها شأن صفقات البيع جميعا.
ذوو السلطة والنفوذ السياسي يتصرفون في “أراضي الدولة” وكأنهم يفهمون “المال العام” على أنه المال الذي لا مالك له, ويحق لهم, من ثم, أن يتصرفوا فيه.
أما “الشعار” الذي يتلفعون به, وهم يتصرفون في “أراضي الدولة”, فهو “تشجيع الاستثمار (المحلي والأجنبي)”; فإنَّ بعضا من القابضين على زمام السلطة يبيعون (أو يؤجرون) لمستثمر (محلي أو أجنبي) أرضا من “أراضي الدولة” بثمن بخس; ومن طريق جمع هذه الأسعار أو الأثمان الزهيدة يحصلون على الثروات الطائلة.
هذا “الثمن البخس” يشجع الاستثمار; لكن هذا الاستثمار (المحلي أو الأجنبي) لن يظل بمنأى عن الفساد; ف¯ “المالك الجديد” قد يبيع الأرض التي اشتراها (من الدولة بثمن بخس) بما يعود عليه بربح جزيل; وقد يستثمرها, أو يستثمر فيها أمواله, أو بعض أمواله, فيعطي جزءا من أرباحه لأشخاص يستطيعون, بما يملكون من سلطة ونفوذ, إعفاءه من الضرائب.
المستثمرون, بفضل هذا الفساد المسمى “تشجيع الاستثمار”, والأجانب منهم على وجه الخصوص, يحوِّلون, في استمرار, جزءا متناميا من أرباحهم (وبالقطع النادر) إلى خارج الأردن; أما “فضيلة” تشغيل أيد عاملة محلية فليس فيها من معاني “الفضيلة” ما يعتد به, إنْ نحن نظرنا إلى هذا الأمر في موضوعية.
حتى الذين أثروا (ثراء فاحشا) من طريق هذا الفساد لا يستثمرون “أموالهم الحرام” في ما يعود بالنفع والفائدة على “الضحية” وهي الشعب; فهذه الأموال (المحوَّلة إلى عملات صعبة) توظَّف هي أيضا وتُسْتَثْمَر في خارج الأردن.
العرب اليوم