ثمة توافق تاريخي لدى معظم الأردنيين، منذ عهد الملك الراحل الحسين بن طلال، على أن “المشكلة ليست في الملك بل في من حوله” من بطانة غير صالحة.
وهي مقولة، وإن كانت تخدم الملك وتظهر أن الناس يثقون به فقط، إلا أنها، لمن يتدبر القول، تحمّله جزءا كبيرا من المسؤوليات، باعتباره هو من يختار معاونيه، أكان في الديوان الملكي، أم رؤساء الوزراء وأركان الدولة بمن فيهم الأمنيون والاعلاميون.
الأسبوع الماضي انشغل الأردنيون ببيان أصدره الديوان الملكي، “يكشف” تفاصيل تسجيل أراض حكومية باسم الملك، بعد “تحر وتقص للمعلومات”، لوضع حد للشائعات واللغط الذي طاول شخص الملك.
بيان الديوان الملكي الذي ذكر أن الأراضي التي سجلت باسم الملك بلغت 4827 دونما فقط، خارج عمان، وأن القصد كان لاستخدامها في مشاريع تنموية وخدمية.
وحصر البيان الفترة التي نقلت فيها هذه الأراضي إلى ملكيته بين عامي 2000 و2003، أي فترة تولي المهندس علي أبو الراغب رئاسة الوزراء. وشدد على أن مترا واحدا منها لم يجر بيعه “ولن يتم بيع متر مستقبلا”. وأن بقية الأراضي هي في طريقها إلى التخصيص لمشاريع أخرى.
وتعهد رئيس الديوان الملكي رياض أبو كركي ومستشار الملك لشؤون الإعلام أمجد العضايلة تزويد أي صحافي ما يطلب من معلومات تتعلق بهذا الملف وجهوزية دائرة الأراضي والمساحة للإجابة عن أي استفسار ذي صلة.
هذه الخطوة لاقت اهتماما وتركيزا إعلاميين كبيرين في الصحافة ووسائل الإعلام المرئي والمسموع، ونشرتها بعض الصحف بالمانشيت العريض. ودبّج كتاب ومعلقون مقالات وتصريحات تثمن وتعلي من أهمية الحدث، وأجريت متابعات ترصد ردود أفعال الشخصيات.
وكان مجلس النواب أول المثمنين لهذه الخطوة، وأعلن في بيان رفضه “اتهام جلالة الملك بتسجيل أراضي دولة باسمه” وكذلك رفض “لغة التشكيك واغتيال الشخصية والاتهام بدون أدلة”.
وانبرى محللون ومسؤولون للدفاع عن الملك عبر الأثير التلفزيوني والإذاعي. لكن الملف لم يغلق، ولا تداعياته. فرئيس الوزراء السابق أبو الراغب نفى أن يكون تسجيل الأراضي جرى في عهده، وصرح أن ما سجلته حكومته فقط 1800 دونم، وأن بقية الأراضي سجلت في عهد الحكومة السابقة واللاحقة.
ونشرت مواقع إخبارية إلكترونية وثائق تشير إلى أن بعض الأراضي سجلت في أعوام لاحقة (2005 – 2006).
وانبرى معارضون وقانونيون لتأكيد عدم دستورية ما جرى، بينما شكك آخرون في دقة الرواية الرسمية، وقالوا إن الأرقام تجاوز ما أعلن، اضافة إلى أن أراضي أخرى سجلت ملكيتها لحساب متنفعين ومتنفذين في الدولة.
الأخطر من هذا كله، أن القصة، قبل إعلان الديوان، كانت محصورة في مجالس خاصة، أو على لسان أفراد في بعض الاعتصامات والمسيرات التي تنفذ أيام الجمعة في الأطراف ومواقع إلكترونية قليلة المشاهدة، لتصير بعد الإعلان عنها على كل لسان.
والتركيز الإعلامي المضخم على القصة، إلى “سوء الإخراج” جعل موضوع “اتهام الملك” أمرا اعتياديا تتداوله وسائل الإعلام والشارع بأريحية وبلا أي حرج، بعدما كان من المحرمات، سياسيا واجتماعيا.
وينص الدستور على أن الملك لا يسأل عن تصرفاته، وأن “أوامر الملك الخطية والشفوية لا تعفي الحكومة من المساءلة”. بمعنى أن الحكومة مسؤولة عن هذه الأخطاء وتحاسب عليها.
وهو ما جعل كثيرين يطالبون بمحاسبة المسؤولين في الحكومات السابقة عن هذه الأخطاء، وأولئك المحيطين بالملك الذين ورطوه بهذه القضية بلا مبرر.
ولعل هذا ما حدا بوزير الدولة لشؤون الإعلام والاتصال راكان المجالي إلى التصريح لفضائية الجزيرة قبل يومين بـ”محاسبة كل المسؤولين عن تسجيل أراض تعود لملكية الدولة باسم الملك”.
هذا التركيز غير المبرر على الملف، كما يرى مراقبون، جعل الباب مشرعا على مصراعيه الآن لكيل الاتهامات للملك مستقبلا، باعتبار أن الحرج من توجيه الاتهام سقط بفعل المعالجة الإعلامية الخاطئة.
ويعتقد مراقبون أن هناك من يسعى بجد لتوريط الملك في قضايا كهذه بقصد ضرب ثقة الشعب فيه وفي النظام الملكي.
ويقارن هؤلاء ما حدث بالخطأ التاريخي الذي وقع فيه وزير الداخلية السابق مازن الساكت عندما خرج إلى الناس عبر وسائل الإعلام مستنكرا تجرؤ بعض الجهات على المطالبة “بإسقاط النظام”، ردا على هتافات أفراد قلائل في مدينة الكرك في مسيرة لمحت إلى هذا الأمر، لتنبري له المعارضة مستغربة أن يصدر من مسؤول رفيع مثله تصريح كهذا، ونبهوا إلى أنه بهذا جعل مصطلح “إسقاط النظام” أمرا متداولا بين الناس”، وهو ما لم يكن مقبولا من أحد قبل ذلك.
ويعتقد المراقبون أن الملف كان يفترض معالجته ببساطة متناهية وتمريره إعلاميا بلا ضجيج، وألا يصدر عن الديوان الملكي وإنما عن مسؤول في دائرة الأراضي والمساحة بانسيابية لا تحتمل الكثير من الضجيج. ويقارنون ما حدث بتصريح سابق للملك مرره بنفسه بكل ذكاء عندما صرح خلال زيارته لهيئة مكافحة الفساد بأن “جميع مؤسسات الدولة، بما فيها الديوان الملكي، خاضعة لمساءلة الهيئة”، ودعوته المسؤولين بالكف عن استخدام عبارة “توجيهات من فوق” لحماية أنفسهم.
ويعتقد هؤلاء أن بعض من حول الملك أشبه بـ”الصديق الجاهل” الذي يضع السيف في موضع الندى ويزين له أفعالا لا تحمد عقباها، تجعله بالمحصلة متهما أمام شعبه.
المصدر: النهار