ما يزال الإعلاميون العرب يعانون من “ترسبات” حقبة ما قبل الربيع العربي، رغم مرور قرابة عام على اندلاع ثورات أطاحت بأربعة رؤساء وغيرت ملامح عدة أنظمة في المنطقة، بحسب المداخلات والنقاشات التي دارت خلال الجلسات وفي الحوارات الجانبية بين المشاركين في مؤتمر “أريج” للصحافيين الاستقصائيين العرب، الذي يختتم أعماله في عمّان الأحد.
وتحدث صحافيون، مدربون وخبراء استقصاء أيضا عن استمرار تأثير الرقابة الذاتية من عهد أجواء الانغلاق السابقة لافتين إلى أن الثورات لم تقتلعها كليا. كما اشتكوا من عدم حدوث تغيير حقيقي في قيادات وسائل الإعلام، وبالتالي لم تتحرر كليا بعد من الخطوط التحريرية التي فرضتها الأنظمة السابقة لعقود في غرف التحرير.
“أنا أعتبر أن مسيرتي الصحافية لم تبدأ بالفعل إلا عندما سقط نظام بن علي”، قال الإعلامي التونسي علي إبراهيم لجمع من الحاضرين في إحدى الجلسات. وكان إبراهيم يعرض تجربته في إجراء تحقيق استقصائي بإشراف أريج لكشف خفايا منح النظام السابق رخصة احتكارية لمتنفذين سابقين من أجل مصنع اسمنت.
“رغم أن العديد من صحفنا تعد مستقلة، إلا أن الأفكار والانتماءات الشخصية للقيادات ما زالت هي التي تقود العمل”، تضيف مواطنته ريم سوودني، التي انطلقت في بلادها شرارة الثورات العربية وأطاحت بنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي بدايات العام الجاري.
ويرى متحدثون ومدربون في المؤتمر السنوي أن الأنظمة السابقة كانت نجحت في ترسيخ ثقافة الرقابة الذاتية في نفوس الصحافيين. التحرر من تلك الحواجز وحق الحصول على المعلومة من أبرز التحديات أمام إعلاميي العالم العربي ما بعد التغيير.
” كيف سيتعامل قطاع الإعلام مع هذا التحول بعد أن تعودت غالبية كوادره على الرقابة الذاتية – بدءا برؤساء تحرير مرعوبين وانتهاء بجيش الصحافيين، الذين تأقلموا مع ظروفهم الواقعية لعقود وباتوا جزءا من أدوات الترويج لحكومات غير ديمقراطية وساعدوا على جلب ويلات حكم الفرد؟” تساءلت المديرة التنفيذية لـ”أريج” رنا الصباغ في مقالها في يومية العرب اليوم الأردنية الأحد.
“نحن نتحدث عن مجال للحرية تم فتحه، ويبقى على الصحافيين حسن استخدامه”، يقول الصحافي المغربي أحمد بنشمسي، الأستاذ في جامعة ستانفورد في الولايات المتحدة، ومؤسس مجلتي “تيل كيل” و”نيشان” واسعتي الانتشار في المغرب.
يشرح بنشمسي أن “الديكتاتوريات العربية لم تمارس الرقابة بقدر ما دفعت الصحافيين إلى تبني الرقابة الذاتية، التي نمت وترسخت في داخلهم”. ويمضي قائلا: “الحرية، إن لم نستعملها، فهي غير موجودة”.
الحاجة إلى تدريب الصحافيين
وتتحدث سوودني، التي تعمل في يومية الصباح التونسية، عن تدفق المعلومات “بزخم شديد” بعد التغيير السياسي، لكنها اشتكت من أن الإعلاميين يفتقرون للتدريب والتقنيات اللازمة لإنجاز تحقيقات استقصائية تكشف الحقائق وتساهم في النهوض بمستوى حياة المجتمعات.
يوافقها الرأي رشاد الشرعبي، رئيس مركز التدريب الإعلامي والتنمية في العاصمة اليمنية صنعاء. ينتقد الشرعبي ما يصفه بالانقسام الحاصل بين وسائل الإعلام اليمنية بين مؤيد للثورة على نظام الرئيس علي عبد الله صالح ومعارض لها. “نحن بحاجة للتدريب الحقيقي والنوعي”، يقول الصحافي.
سعد حتر، رئيس وحدة التحقيقات الاستقصائية في شبكة “أريج”، يرى أنه من الضروري تعميم الاحتكاك بين الإعلاميين العرب وزملائهم من مختلف أصقاع العالم، بهدف التشبيك، تبادل الأفكار ونقل الخبرات. “هنالك حاجة لتدريب مكثف… وقيادات إعلامية متحررة ومهنية، بعيدا عن ترسبات الأنظمة السابقة”.
ورشات العمل، المحاضرات، كذلك الأحاديث الجانبية تواصلت طيلة اليوم الثالث والأخير من المؤتمر، الذي شارك فيه نحو 250 صحافيا وخبيرا من 22 دولة عربية وأجنبية.
تناولت الجلسات آليات التحقيق في أنشطة المجموعات المسلحة والمغلقة، الهجرة غير الشرعية، عالم المال والأعمال، ومستقبل الصحافة الاستقصائية بعد رياح التغيير العربي.
الإعلامي اليمني عمر الهروجي عرج على تحقيقه الذي تناول تنظيم القاعدة في اليمن، وشرح أهمية بناء جسور من الثقة بين الصحافي ومصادر المعلومات داخل التنظيمات المغلقة، “دون أن يتحول الصحافي إلى أداة ترويجية” في يد المجموعة المغلقة.
في الأثناء، كان مراسل المصري اليوم هشام علّام يتحدث عن تحقيق تناول قيام مجموعات إسلامية، منها حزب الله اللبناني، بتهريب سجنائهم في السجون المصرية بعيد سقوط نظام الرئيس السابق حسني مبارك.
طوال نهار الأحد، كان عشرون صحافيا أريجيا يتدربون على استخدام “لوحة القيادة”، فضاء رقمي يساعد في تعقب المال وكشف الفساد المالي والسياسي. الورشة قادها الروماني بول رادو والأميركي درو سوليفان، المدربان في مشروع تغطية الفساد والجريمة المنظمة.