الخروج من المنطقة الرمادية، التي امتد اختباء عمان فيها وتهربها من اتخاذ موقف واضح، يرى مراقبون أنه كان يمكن أن يستمر إلى فترة أطول لولا موقف الجامعة العربية الذي شجع الديبلوماسية الأردنية على هذا التحول، وإن كانت تصريحات العاهل الأردني مغلفة بطابع النصيحة.
ويعتقد المراقبون أن تصريحات الملك المفاجئة، تهدف، في جانب منها، إلى تهيئة الرأي العام الأردني لتقبل إمكان وقوع نزاع مع سوريا، وهو، إن حصل، فلن يقبل صانع القرار السياسي الأردني التورط فيه إلا بغطاء شرعي إقليمي (الجامعة العربية) أو دولي (الأمم المتحدة، أو حلف شمال الأطلسي حال عسكرة الأزمة). وعلى رغم ذلك، ستبقى المملكة الهاشمية، المرتبطة بعمق مع جارتها الشمالية في مختلف المجالات، كـ”بالع الموس” كما يعبر الأردنيون، للتدليل على خطورة وحراجة الوضع وحجم المخاطر التي تتربص بأي تحول حيال النظام السوري، داخلياً وخارجياً، إن كان تأييداً أو معارضة له.
ولذلك، يبقى الباب مفتوحاً في عمان، على الأقل خلال الأيام القليلة المقبلة، على سيناريوات مختلفة، لجهة التهدئة أو التصعيد، في انتظار ما سيصدر عن دمشق من رد فعل.
وهناك من يعتقد أن تصريح الملك إلى “بي بي سي” اتسم بشيء من التسرع، وأنه كان ينبغي اللجوء إلى مزيد من المماطلة والتسويف واللعب على عامل الوقت.
ويرجح هذه الاعتقاد تصريح وكالة الأنباء الأردنية “بترا” المتعلق بخبر تصريحات الملك، الذي حاولت فيه ترطيب اللهجة ولوي أعنة الحديث.
إذ أفادت الوكالة أنها علمت أن تصريحات الملك لـ”بي بي سي” “لم تأت في سياق دعوة مباشرة وصريحة للرئيس السوري للتنحي، وإنما في إطار رده على سؤال “افتراضي” حول ما قد يقوم به شخص يمر في نفس الوضع”.
ويشبه مراقبون تصريح الملك بسابقه المتعلق بإيران لصحيفة “الواشنطن بوست” أواخر عام 2004 عندما أبدى تخوفه من نشوء “هلال شيعي” في المنطقة يمتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق. وهو ما تراجعت الحكومة الأردنية عنه لاحقاً وقالت أنه فهم على نحو خاطىء.
لذلك، يتوقع مراقبون أن تلجأ الحكومة إلى إصدار بيان مقتضب، يميل إلى التهدئة آنياً، بغية منع أو تأخير التصعيد والمواجهة بين البلدين إلى أطول فترة ممكنة في انتظار معرفة إلى أين ستتجه تطورات الأزمة السورية في الداخل، ومع المجتمع الدولي إن تصعيدا للأزمة أو حلا لها.
مخاوف ومحاذير
اتساع حجم التشابك في العلاقات بين الأردن وسوريا، ودخول الأزمة الداخلية في الأخيرة مرحلة التدويل، يضعان الأردن في موقف جدّ صعب في أي خطوة أو موقف يتخذه حيال هذه الأزمة.
وهو جهد في تأجيل إعلان موقف صريح من الأزمة، ولجوئه إلى المواربات الديبلوماسية، وتأكيد حرصه على “عدم التدخل في الشأن الداخلي” وحرصه على “وقف العنف ضد الحراك الشعبي” وعلى الحفاظ على العلاقة الحسنة مع سوريا. وفي الوقت عينه يواجه ضغوطاً عربية ودولية للتقدم خطوات تصعيدية ضد النظام السوري، ليس أقل من سحب السفير الأردني لدى دمشق، مع التحسب لاحتمال تحول الأزمة إلى النموذج الليبي.
العلاقات السياسية
لم تدم أبداً علاقات الجوار بين البلدين على مسار واحد، وهي اتسمت بالمد والجزر، ووصلت غير مرة حد التحشيد العسكري على الحدود (1970، 1980) وإغلاقها.
ووصلت علاقات حسن الجوار في فترات حد “التكامل” اقتصادياً، وطاولت توحيد المناهج الدراسية، وتزويد الأردن مياه الشرب لتخفيف حدة الأزمة المائية المزمنة في الأردن. وسلبية العلاقة كان الباعث الرئيس إليها في معظم الأحيان خارجياً، باستثناء أزمة “الإخوان المسلمين” في سوريا، الذين حظوا بدعم أردني بدايات ثمانينيات القرن الماضي.
ويعتقد صناع القرار أن الأزمة الداخلية في سوريا، التي جهدوا في مراحل معينة لمنع تدويلها، يتحمل نظام الرئيس بشار الأسد مسؤولية تفاقمها ووصولها إلى ما وصلت إليه، وكذلك احتمالات مزيد من التفاقم. وهم مقتنعون أن الأردن ربما يكون البلد الثاني بعد سوريا في فداحة الأضرار (ينافسه في ذلك لبنان) حال انفلات الأوضاع.
إذ أن عمان تعتبر دمشق عمقها الاستراتيجي، خصوصاً منذ سقوط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين منذ 2003. ومعلوم أن نقطة ضعف البلدين الاستراتيجية تكمن في المنطقة الحدودية (سهول حوران)، في حال وقوع أي عدوان إسرائيلي على أي من البلدين، باعتبار تلك المنطقة اللينة “ساقطة استراتيجياً” ولا يمكن الدفاع عنها، ولا يفصلها عن عمان أو دمشق سوى بضع عشرات من الكيلومترات المفتوحة.
وما يزيد المخاوف الأردنية في الأزمة الراهنة تصاعد لهجة العداء الإسرائيلي حيال الأردن، وتزايد الدعوات داخل مراكز القرار في تل أبيب حيال مشروع الوطن البديل (إقامة الدولة الفلسطينية على الأرض الأردنية)، الذي يطرحه الإسرائيليون ضمن صفقة التسوية السياسية في المنطقة.
كما أن الأردن يخشى أن تستغل إسرائيل تدويل أزمة سوريا لمزيد من التجميد لعملية السلام والإمعان في تنفيذ مشاريعها الاستيطانية، وربما تصفية حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزة.
اقتصادياً
سيؤدي انقطاع العلاقات التجارية مع سوريا، أو المقاطعة الاقتصادية المتوقع صدور قرار أممي في شأنها، إلى خسائر ثقيلة على الاقتصاد المترنح للمملكة البالغ حجم وارداتها من سوريا العام الماضي نحو 380 مليون دولار، فيما بلغت صادراتها إليها بين آب 2010 وآب 2011 نحو 170 مليون دولار. ولا يقتصر الأمر على التجارة البينية، إذ أن سوريا ممر حيوي لتدفق البضائع التركية إلى المملكة، وكذلك تجارة الترانزيت، ومشاريع الطاقة والمياه والنقل المشتركة. كما أن الارتباط القبلي والأسري الوثيق بين شمال الأردن وجنوب سوريا يشكل عائقاً داخلياً على أي تصعيد حيال دمشق، ناهيك عن بروز تيار سياسي، يقوده مثقفون وحزبيون وثيقو الصلة بنظام الأسد، يرى أن ما يحدث في سوريا هو مؤامرة إمبريالية صهيونية لإسقاط النظام السوري “الممانع”.
وهذا التيار، على رغم ضعف تأثيره في مواجهة التيار الذي تقوده الحركة الإسلامية المطالبة بإسقاط نظام الأسد، إلا أنه قادر على إحداث بلبلة في الشارع الأردني الذي يمور بالحراك السياسي الشعبي الأردني ذي المطالب الإصلاحية الشبيهة بتلك التي خرج من أجلها نظيره السوري.
وهو ما لا تحتمله الأوضاع الداخلية في المملكة، التي تشهد حالياً ترقباً في انتظار التعرف على توجهات حكومة الرئيس عون الخصاونة “الإصلاحية” التي ستتقدم الأسبوع المقبل إلى البرلمان لنيل ثقته بها.
فكيف سيتعامل الشارع الأردني مع تطورات ملف العلاقات مع سوريا الأسد؟ وما هو شكل فعل الرد السوري؟ وكيف سيكون شكل تحرك حكومة الخصاونة حيال تطورات الأزمة؟ هذا الذي ستجيب عليه تطورات الأوضاع داخل سوريا وفي أروقة صنع القرار الغربي والدولي في الأيام المقبلة.
المصدر: صحيفة النهار