البــدايــــــة
إهـــــــــــداء:
إلى كل عبد صدق بكلمات الله ورسله فعلم أن الجنة حق..... وأن
النار حق... وأن الله يبعث من يموت وأمن بذلك إيماناً لا يتزعزع
حتى كأنه يراهما رأى العين...
فعمل... واجتهد... وأحسن... وعاش فى الجنة بقلبه وهو مازال فى الدنيا... قبل أن ينتقل إليها فى الآخرة...
إلى هؤلاء نقول مرحباً بكم فى الجنة....
الجزء الأول:
من المعلوم لنا جميعاً أن كل إنسان يحفظ جيداً يوم مولده... لكننا لم نسمع أبداً عن شخص يحفظ أو يذكر يوم موته... وكيف ذلك وهو لا يعرفه... ولا يعلم متى ولا على أي حالة سيكون هو وقتها وصدق الله إذ يقول: { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [لقمان: 34]
فإذا تصورنا أن شخصاً ما قد انتهى أجله وانتقل إلى الدار الآخرة ثم رأى وعايش كل ما أخبرنا به الحق جل وعلا فى كتابه الكريم وما أخبرنا به رسولنا فى سنته وأحاديثه المطهرة... وأراد هذا الشخص أن ينقل إلينا مشاعره وأحاسيسه ووصاياه لنا لكى نعتبر ونتعظ فيزداد المحسن إحساناً ويتوب العاصى عن ذنبه... ترى ماذا يقول لنا... وبماذا ينصحنا.
قفزت سنوات العمر:
نعم قفزت سنوات العمر ولا أجد تعبير أسرع من ذلك لأقوله فلم أشعر بعمرى وهو يمر... أنا الآن عندي سنة... ثم خمس... ثم مرحلة الشباب... ثم.. عمرى كله الذى مضى كان لحظة واحدة وهى لحظه تذكري له... وها قد مرت اللحظه وحانت لحظة النهاية.
لحظة النهاية:
لن أنسى أبداً ذلك اليوم... يوم موتي.. كان بالنسبة لي يوماً عادياً عدت من عملي وتناولت طعام الغداء ثم ارتحت قليلاً حتى أذان المغرب ساعتها نهضت وتوضأت وذهبت إلى المسجد لأداء الصلاة التي كنت أحرص عليها بشدة فهي كما علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم هي « أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله ».
المهم وبدون أي مقدمات شعرت أن الأرض تدور من حولي وأني أفقد الوعي شيئاً فشيئاً ثم شعرت بعدها أنني لم أفقد الوعي فقط وإنما أفقد الروح أيضاً.
وانكشف الغطاء:
حجبت عني الدنيا فلم أرى أو أسمع شيئاً مما يدور حولي أنا الآن فى عالم آخر... أنا الآن فى عالم أخر... أنا الآن أموت..
أنا الآن أعاني سكرات الموت... هذه السكرات التي عانى منها سيدي وحبيبي سيد الأوليين والآخرين... هذه السكرات التي دعا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن يهونها الله عز وجل عليه وعلى المؤمنين...
هذه السكرات هي التي أعانيها الآن.. هاهي أعضائي تبرد وتتجمد... هاهو دمي يجف... وعروقي تنضب... ونبضي يغيب... هاهي عيناي تشخص فى الأفق البعيد..
لتراهم الآن .. نعم هاهم قادمون... ملائكة يحيطون بي من كل مكان بيض الوجوه... كأن وجوههم الشمس... يحملون فى أيديهم كفناً رائع الحسن لا تتعجب وأنا أقول عن الكفن أنه رائع الحسن فهو كفن من أكفان الجنة فكيف لا يكون رائع الحسن... ومعهم عطراً لم أشم رائحة أجمل منه قط.. هاهم يقتربون مني ويضع كل منهم يده
على جسمي.. ويبتسمون فى وجهي كأنهم يقولون لي اطمئن...
ومرحباً بك عند ربك.
ثم جاء ملك الموت... عظيم الخلقة - سترونه بالتأكيد - وأخذ يقبض روحي برفق ولين وهو يدعو أن تخرج روحي إلى مغفرة الله ورضوانه وتمثل لي حديث نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم: « أن روح المسلم تخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء »
وقد شعرت بذلك يا سيدي وحبيبي هاهي روحي يخرجها ملك الموت بلا مشقة.. بلا تعب.. بلا عذاب وإنما كأنها شعرة تسحب من العجين وحينما انتهى من قبض روحي كفنتني الملائكة وعطرتني وأرسلوا روحي إلى أعلى عليين ولسان حالهم يقول هنيئاً لك طاعتك لربك... هنيئاً لك رحمة الله بك.
وأطلت عيناي شاخصة تتابع روحي وهي تخرج إلى مكانها فى عليين ولساني ينطق بلا إله إلا الله محمد رسول الله... وعندئذ نزلت مني دمعتان رغماً عني هما دموع الفراق وسمعت آيات تتلى { كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } :القيامة: 26-30]
الأنيس:
امتلأ البيت بالناس... وما بين باك ومتألم وحزين... ومذهول من سرعة موتي...ثم حملوني إلى حيث يوجد قبري... وضعوني بداخل القبر ثم ولوا مدبرين سراعاً... وتركوني وحيداً.
نظرت حولي... لم أبصر شيئاً... انخلع قلبي من الخوف... ظلمة شديدة... ووحدة رهيبة... وغربة ليس بعدها... الآن أنا وحدي.. فى كل شيء سأكون وحدي.. هل هذا بيتي هل هذا قبري.. إلهي وسيدي ومولاي... أنا كنت فى الدنيا عبداً طائعاً رحمتك يا أرحم الراحمين.. وفجأة ظهر لي ملكان... يا للهول مشهدهما.. عيونهما مثل البرق.... وصوتهما كالرعد... انتهراني بشدة وسألاني من ربك وما دينك وماذا تقول فى الرجل الذى بعث فيكم ولم أدر إلا وأنا أجيب بسرعة وثبات عجيب واطمئنان راسخ....
ربي الله... وديني الإسلام.... ومحمد رسول الله....
يا للفرحة التي كانت فى قلبي ساعتها... يا للسرور الذى ملأ كل كياني فى تلك اللحظة وتذكرت هنا الآية التي كنت أقرأها فى الدنيا
{ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [إبراهيم: 27]
صدقت يا ربنا أنت الذى ثبتني.. أنت الذي أنطقت لساني فلك الحمد كله، وهبت علي نسمة من الهواء لم أشعر بمثلها قط وشممت رائحة لم تشم أنفي مثلها قط تغلغلت فى كل كياني... وفجأة لاحت لي حزمة من النور والضياء أخذت تقترب شيئاً فشيئاً حتى وجدتها أمامي.. وجوها من أحسن الوجوه... وضاءة وملاحة فسألتهم وقلبي يرقص طرباً من أنتم؟
فوجوهكم كلها الخير.. فابتسموا وقالوا لي.. ألا تعرفنا ونحن صنع يديك ثم عرفني كل منهم بنفسه فقال النور الأول أنا صلاتك
وقال الثاني وأنا زكاتك.. وأنا غضك لبصرك.. وأنا برك لوالديك... ونصرتك للمسلمين... وأنا صيامك.. وأنا كفالتك لليتيم.. ثم وجدت نور شديد فقلت: من أنت
قال: أنا القرآن الذى حرمك النوم بالليل.. أنا وردك القرآني الذى كنت تقرأه بالليل... أنا الآن حجتك وشفيعك أمام ربك عز وجل..
ثم ابتسموا جميعاً واقتربوا من بعضهم البعض حتى صاروا نوراً واحداً لم أرى مثله قط أضاء قبري وقالوا بصوت واحد أنا عملك الصالح... وأنا جليسك فى وحدتك ومؤنسك فى غربتك إلى يوم القيامة.
رقص قلبي فرحاً وطار فى نواحي القبر... ما هذا... إن القبر يتسع ويتسع حتى صار على امتداد بصري.. اللهم لك الحمد يا رب العالمين.. كل هذا من أجلى أنا.. أنا العبد الضعيف... الذليل..
المحتاج.... جاءني صوت يقول بل أنت العبد الطائع... بل أنت حبيبي .. يا إلهي يا أرحم الراحمين... يا أرحم الراحمين.. أنا حبيبك أنا العبد المسكين حبيب رب العالمين... يا لها من كرامة ويا لها من جائزة.
تذكرت لحظتها الدنيا بكل متعها وزخرفها... وزينتها... كم تساوي فى مقابل تلك اللحظة.. فأي شيء يساوي رضاء رب العالمين... أي شيء يعادل أن تكون حبيب رب العالمين.. يا أصحاب الجوائز والميداليات.. هل هناك جائزة أعظم من تلك الجوائز.. يا أصحاب الملايين ما قيمة ملايينكم أمام تلك اللحظة أنا حبيب رب العالمين ... أنا حبيب سيدي ومولاي...وكل هذا الفضل بماذا؟
بآيتين من القرآن كنت أقرأهما... باتخاذي محمد صلى الله عليه وسلم قدوتي.. بتلك الأعمال أصبحت حبيب رب العالمين.. يا له من فوز .. عمل قليل وأجر وفير.
وهنا كان الشوق لربي قد بلغ مبلغه فلم أتمالك نفسي فناديت بكل قوتي رب أقم الساعة.... رب أقم الساعة.... رب أقم الساعة...
وسمعت صوت الحق ينادي ... ليس الآن فإن الله عز وجل قد قال في كتابه الكريم: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [طه: 55]
وهنا نمت كما ينام العروس يوم زفافه ونعيم الجنة حولي وكل مكان فى قبري يصدق حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
« القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار »
وها أنا ذا أحيا فى روضة من رياض الجنة أنتظر وعد رب العالمين يوم الفصل بين الخلائق أجمعين وأنا أشتاق لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم والصحبة الكرام وأذوب تحرقاً للقائه على الحوض.
وماذا بعد:
أخي الحبيب ... ها قد عرفت الآن كيف صرت بعد الحياة.. وكيف أكرمني ربي وثبتني وكيف عاملني ملك الموت وملكا القبر... وها أنا ذا أنتظر لقائي بحبيبي محمد صلى الله عليه وسلم: وإني سائلك؟
ترى ماذا أنت فاعل بعد ما عرفت... الآن:
1- اجعل الدنيا فى يدك وليست فى قلبك وأوجز فى الطلب فإنما كل شيء بقدر.. يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:
« إن روح القدس نفث فى روعي أنه لن تموت نفس قبل أن تستوفي رزقها وأجلها فاشغل نفسك بما هو عليك ولا تشغل نفسك بما هو حولك ».
2- أذكر الموت دائماً... وكونك لا تعرف متى يأتيك يجعلك دائماً على أتم الاستعداد فكن دائماً على طاعة واحذر أن تقبض وأنت على معصية فإنما الأعمال بالخواتيم.
3- أكثر من زيارة القبور لتعتبر وتتعظ وتعرف أين سيكون مصيرك؟... ثم تذكر كم من ملوك متوجة... وكم من رجال ملأ السمع والبصر.. وكم من حسان فاتنة هم الآن تحت التراب بل هم الآن تراب نخر الدود عظامهم والتهمت الأرض أجسادهم ولم يعد لهم فى دنياهم إلا حسن الذكر من حسن العمل... أو اللعن من سوء العمل.
قصة شاب فى حسن الخاتمة:
شاب كان يقود سيارته وفجأة تعطلت السيارة فى أحد الأنفاق المؤدية فنزل عن سيارته لإصلاح العطل فى أحد العجلات فجاءت سيارة مسرعة وارتطمت به من الخلف فأصيب إصابات بالغة فحمله الناس ووضعوه فى سيارة أخرى وساروا به إلى المستشفى... يقول عنه الناس أنه شاب فى مقتبل العمر (متدين ) يبدو ذلك من مظهره عندما حملوه فى السيارة سمعوه يهمهم فلم يميزوا ما يقول ثم ركزوا فى كلامه سمعوا صوتاً مميزاً.. إنه يقرأ القرآن وبصوت ندي سبحان الله لا تقول هذا مصاب الدم قد غطى ثيابه وتكسرت عظامه بل إنه على ما يبدوا على مشارف الموت استمر يقرأ بصوت جميل يرتل القرآن فجأة سكت التفت إلى الخلف فإذا يرى المصاب رافعاً إصبع السبابة يتشهد ثم انحنى رأسه قفز الرجل إلى الخلف فوجده قد مات ثم ذهبوا به إلى المستشفى فأخبروا كل من قابلوه بقصة الشاب..
الكثير تأثروا أحدهم ذهب وقبل جبين الشاب.. ثم اتصلوا بأخيه من المستشفى فعندما جاء قال لهم أنه يذهب كل اثنين لزيارة جدته الوحيدة فى القرية وكان يتفقد الأرامل والمساكين... كان أهل هذه القرية يعرفونه جيداً فقد كان يحضر لهم الشرائط والكتب الدينية.
اللهم أحسن خاتمتنا...