ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا أحد في الدنيا كائناً من كان يقبل أن يتخلى عن طبعه حسناً كان أو سيئاً.
فالطبع الذي نكتسبه كالوشم علي الجسد، و ليس من اليسير التخلي عنه بسهولة تامة، و السبب في عدم تركنا له ليس غريباً إذ أننا في العادة لدينا جدار حماية يفوق في قوته كل جدران الحماية التي عرفها البشر و اخترعوها لحماية أنفسهم مما يعتقدون أنه خطر عليهم.
و جدار الحماية هذا أيها السادة يتمثل في فطرة خلقها الله سبحانه و تعالى فينا هي فطرة ( الاعتياد )،
يقول الشاعر:
و ينشأ ناشئ الفتيان فينا ×× على ما كان عوّده أبوه
و هي سلاح ذو حد قاطع لا يعمل إلا في اتجاه واحد فقط، و إذا قطع يصعب بعد قطعه إصلاح الضرر.
إذ أن المرء فينا لا يكتسب الطبع الحسن أو السيئ إلا بعد الاعتياد عليه زمناً، و لهذا يتحول الإصرار على عادة ما إلى طبع فينا و سمة مميزة لنا نعرف بها بين الناس.
و لأن المرء روح و جسد، شكل و مضمون، فهو يعمل في كليهما أي الاعتياد، غير أن عمله في الروح أخطر و أضر من عمله في الجسد.
و لذا نرى أنفسنا إذا ما اعتادت على أمر ما كان قبيحاً أو جميلاً نجدها من الصعب أن تتخلى عن تلكم العادة، و أذواقنا خير شاهد علينا في هذا المقام.
و الأمر هنا سادتي جد خطير و خاصة على أطفالنا ، أما نحن فقد عمل فينا هذا الجدار عمله و إصلاح ما أفسده يحتاج منا إلى جهد كبير جداً جداً جداً.
فمن منا لديه الرغبة في أن يتخلى عن واحدة فقط من عاداته السيئة في المأكل و المشرب و الحل و الترحال، حتى و إن قال قائل: أنا لدي القدرة على ذلك، فأقول له سريعاً و دون تفكير: إن طبعك يا عزيزي سيغلب تطبعك.
نعم إن الطبع يغلب التطبع.
و إذا ما عدنا بالزمن قليلاً إلى الوراء فقط بضع سنوات، تحديداً إلى عمر الطفولة، و لنتذكر سوياً لو بقيت بعضاً من الذكريات حاضرة فينا، لوجدنا أن أول كذبة كان لأجل الهروب من عقاب الوالدين أو المعلم أو غيرهما، و ربما نجحنا فيها، و هكذا نستعذب فعلنا و بتكريره يتحول الفعل لعادة و بالاعتياد يتحول إلى طبع ( خلق ) و الطبع كما يقولون غالب.
و جاء في الحديث:
( إ ِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا ) رواه البخاري و مسلم.
و الدارس للغة الضاد يعلم جيداً أن هناك من الألفاظ في اللغة ما يدل على استمرار الفعل و دوامه من الفاعل، و من ذلك الفعل المضارع كما جاء في الحديث ( يصدق ، يكذب ) و فالصدق خلق مكتسب و كذلك الكذب و هما لا يكونان خلقاً ملازماً في المرء و طبعاً غالباً فيه إلا بالاعتياد عليهما.
فمن اعتاد على القيام الساعة العاشرة صباحاً يجد من الصعب عليه أن ينهض الساعة السادسة، و هم جراً.
و يقول علماء النفس في تعريفهم للعادة:
هي أنماط مكتسبة متعلمة متكررة للفرد من السلوك وتحدث من ما قبل الشعور وليس بتفكير شعوري بشكل مباشر أو ملاحظ لأنها لا تلتقي مع تحليل الذات.
و يقولون عن التعود:
هو تعلم بعد فترة من التعرض لمثير معين.
والعادة تتطور بعمل النشاط عدة مرات ولأن الخلايا العصبية في الدماغ تخلق مساراً ثابتاً صعب التغيير يجعلها تمر بسرعة للدماغ.
و الاعتياد على الشيء يمر بمراحل ثلاث هي:
مرحلة المعرفة: أي معرفة الإنسان بالشيء المراد القيام به.
مرحلة الرغبة: أي توفر الدافع و الحوافز لعمل الشيء.
مرحلة المهارة: أي القدرة و التمكن من عمل الشيء.
فإذا التقت هذه العناصر الثلاثة في عمل من الأعمال فقد أصبح عادة، وإذا نقص واحد منها فإنه يحول دون التعود على العمل.
و في الأخير لا أقول لكم إلا:
راقبوا أفكاركم لأنها تتحول إلى أفعال.
و راقبوا أفعالكم لأنها تتحول إلى عادات.
و راقبوا عاداتكم لأنها تتحول إلى طباع.
و الطبع غالب.