انتشرت في عصر الجاهلية، ظاهرة "وأد البنات"، وهي قتل الفتاة وهي حية، حيث كان يعتقد ان الفتاة عار على العائلة وتشكل خطر على شرف العائلة وسمعتها. ويبدو ان هذه الظاهرة لم تختف حتى الآن حيث تجرد اب من مشاعر الانسانية واتبعها بحق طفله البريء لوضع حد للشكوك التي راودته بأن ابنه ليس من صلبه وان زوجته خانته بسبب اختلاف لون بشرة طفله عن سائر اخوته!
"فريد" وهو "اسمٌ مستعار.. لشخص من غزة، بدأت حكايته عندما طلب من زوجته الاكتفاء بعدد قليل من الأبناء حتى يستطيع تربيتهم حسب مصدر رزقه الضئيل، لكن شاء القدر أن يرزقه الله بالطفل الأخير "محمود" ذي الملامح الملائكية الجميلة، "كان طفلاً أبيض البشرة بعيون زرقاء مختلفاً عن إخوته في لون البشرة والشخصية.
ورغم رفض "فريد" لهذا المولود الجديد إلا أن سعادة أطفاله بشقيقهم الجديد أوصدت أمام رفضه جميع الأبواب، إلا أن التساؤلات الكثيرة بقيت تطارده: "لماذا يختلف عن إخوته؟، وهل في سلاسة العائلة شخص بلون بشرته وعيونه الزرقاء؟، وهل زوجتي "خانتني" و..و..".
احتفظ بهذه التساؤلات في نفسه، ولم يناقش بها أحد، بدأ الصغير يكبر يوماً بعد يوم وتظهر شخصيته الجميلة التي تميزه عن أشقائه، حتى أن كثيراً من الجيران في ساعات المزاح كانوا ينكرون عليه أن هذا الطفل من صلبه، ويبادلهم المزاح قائلاً: "هذا ابن الزوجة الثانية".
تسلّلت خيوط الشك إلى نفسه بعد أربع سنوات من عمر الطفل، أصبح يجلس من عمله ليراقب تحركات زوجته، ويختلس الدقائق للجلوس إلى أبنائه ليسألهم عن القادم والخارج من بيتهم، علاوة على ساعات التحقيق التي كان ينصبها لزوجته متخذاً كل الأساليب للضغط عليها والاعتراف بأن هذا الطفل ليس من صلبه كما يردد الشيطان في أذنه ليل نهار.
نصبَ فريد "جلسات محاكمة" كانت تطول إلى ساعات الفجر الأولى، والزوجة تقسم بكل الأديان السماوية بأنها بريئة ولم تخنه يوماً وأن هذا الولد من صلبه، وما يزيد انزعاجها هو سؤاله الاستخباراتي مع الأولاد: من دخل إلى بيتنا في غيابي؟، ومن زارنا؟، وجعل أبناءه يتجسسون على والدتهم في ذهابها وإيابها، وفي آخر النهار يكون ردهم "لم تخرج، لم يزرنا أحد" لكنه لم يصدقهم ويزيد الضغط عليها بأسئلته التي لم تنتهِ.
أصرت زوجته عليه أن يذهب إلى بيت عائلته ليتأكد بأن هذا الطفل من سلالته للخروج من هذا المأزق والمحاكمات التي لم تتوقف، ويعرف ممن ورث محمود تلك الملامح. أصبح فريد يكره هذا الطفل وما أن يقترب إليه بكل براءة ليأخذ ما حملته جيبه حتى يدفعه بعيداً عنه، وهذا ما زاد قلق الزوجة والأبناء الذين لاحظوا تلك الأفعال من والدهم.
طرق "فريد" باب من اعتقد أنه سيجد الراحة عنده لعقله ومن يدله على الحقيقة ويساعده، خاصة أنه أحد أقربائه ويعرف بالعائلة ما لا يعرفه هو، فما دار في خلده من أسئلة نقلها لهذا الشيطان الذي لبس ملابس الإنسانية، "هل في العائلة من يحمل من جينات "محمود"؟ هل تعتقد أن محمود من صلبي؟، لكن الثعبان أضحى يبث سمومه في عقله ويُصدقه تخيلاته التي لا تمت للواقع بصلة.
جلس "فريد" أياماً وليالي مع الغراب الذي ينعق له بالشر يخطط للتخلص من هذا العار الذي ألم بعائلته، فلم يطرق باب والديه كما وعد زوجته كي يطمئن إلى سلالة عائلته، وترك أذنه لهذا الشيطان ليؤكد شكوكه من خلال عرض أسماء تشبه للصغير سواء من العائلة أو الجيران، والآخر يقول مستهجناً: معقول يكون فلان أو علان، لا هذا خلوق وذاك متزوج ولديه أولاد، والغراب الحاقد يردد: أتوقع واحداً منهم.
تعب عقله كثيراً من التفكير في الحلول التي تخرجه من هذه الأزمة الكبيرة التي وضع نفسه بها، فأخذا يبحثان سوياً عن حل للتخلص من هذا العار، وتوصلا إلى "ضرورة التخلص من هذا البريء بقتله دون علم أحد"، سارعا إلى تنفيذ الخطة التي رسماها معاً، وفي أحد الأيام مرض والدها وطلبت منه زيارته سريعاً، فوافق دون تفكير وأخبرها بأنه سيرعى الأبناء في غيابها، ومن جانبها أصرت على اصطحاب الصغير خوفاً عليه من هواجس والده لأنها تعلم جيداً بأن انتقامه سيكون عاجلاً أم عاجلاً، مؤكدة لزوجها بأنه صغير ويحتاج إلى رعاية أكثر من إخوته، إلا أنه ألح عليها بالذهاب بمفردها بحجة أن صراخ الطفل يؤذي والدها المريض.
صدقت زوجته حججه معتقدة بأن قلب الأبوة سيستيقظ عند كلمة "بابا حبيبي" يطلقها هذا الصغير وتلفت نظره عن تنفيذ مؤامرته، ذهبت إلى بيت عائلتها للاطمئنان على والدها، فهنا تعمد فريد أن يدفع أبناءه للشارع في حضور قريبه لشراء الحاجيات وترك الصغير لديه خوفاً عليه من أذى الشارع، وهم يأتون بما يحتاج.
نزلوا الأطفال وغدا ينفذ خطته بمعية قريبه حيث جلب اللاصق وبدأ يلف فم طفله وتقييد حركته والصغير يستنجد به، ويقول بكل براءة: "أبي أنا أحبك.. لا تقتلني" وتوسلات الطفل اصطدمت بالصخرة الصلبة التي حلت مكان قلب والده فأكمل وضع اللاصق وحمل الطفل إلى منطقة مهجورة وأده حياً ومن ثم أهال عليه التراب ومضى يبكي بدموع التماسيح على غياب طفله الجميل.
عادت الزوجة إلى البيت ولم تجد طفلها في البيت ولا زوجها الذي علا صراخه في الشارع لينذرها بما كانت متخوفة منه، وبدأ يستنجد بالجيران كي يبحثوا معه عن طفله، والذي أخذ يلقي التهم جزافاً، "ربما اختطفه أحد العابثين، أو ضاع في الطريق" مع تأكيد الأبناء أنهم تركوه إلى جانبه ونزلوا يشترون له حسب طلبه.
أتقن فريد اللعبة جيداً وتصنع البكاء والعويل على فقدان ابنه الصغير "محمود" حتى أن فريق التحقيق صدق دموعه الكاذبة وجند كل أفراده من جنوب القطاع إلى شماله بحثاً عن طفلٍ هو من صلبه.
كثفت الشرطة تحرياتها ودارت الشكوك حول "فريد"، وأكدت الزوجة أثناء التحقيق تخوفاتها من أن الزوج هو من قام بهذه الفعلة بحق طفله البريء تبعاً للجلسات التي كان يعقدها لها ليل نهار والتشكيك في نسب الطفل بحجة أنه يختلف عن إخوته في الشكل، كذلك اتهامه لها بالخيانة ومراقبة تحركاتها، وتأكيد الأبناء أنهم تركوا الطفل عند والدهم بعدما أصر عليهم النزول للشارع بدونه، وبالضغط عليه ومراجعة نفسه اعترف بفعلته بمساعدة قريبه، ومن ثم تم استخراج الطفل من الحفرة فاقداً للحياة.
ندم فريد كثيراً على ما اقترفه بحق هذا الطفل البريء وعائلته التي أضحت تغلق أذنيها وعينيها عن حديث الناس عندما وجهت لها إصبع الاتهام: "قتلوا طفلهم لمجرد الشكوك" فبدلاً من أن يهرب من العار هرب إليه ووصمت عائلته بـ"قتلة الطفولة".