الجزء الثالث :
33
ما أجمل صبح الرياض ، ينافسُ ليلها وأظنّه أحق بوصف الرقة منه ، ها قد بدأت الأجواء تميل للبرودة وآذن الشتاء بدخول ..
الشمس بدأت تقتصدُ في لهبها وبات شعاعها يخترقنا لطيفاً ..
باتت الغيوم كثيراً ما تصطف في كبد السماء ككراتٍ قطنيّة ،
تجحب الشمس وتنشر في الأرجاء ظلاً يجعل من الرياض مدينةً تشبه نظيراتها في أوروبا ..
تحتجب الشمس .. لكن شمس الحب في هذا البيت الجميل تسطع ليلَ نهار!
والبرد الذي بدأ يتسللُ في الجسد كنتُ أحاصرهُ بدفء سـارة
عندما أُفيق كل صبح .. أبادر فوراً لتفحص الضفة الأخرى من الفراش.. لفرط شوقي ، وربما لقطع شكوكي بأنها لي و لستُ أحلم !
تتمددُ بجواري سارة .. كأننا ننام على شاطيءٍ أعيانا الإبحار .. أو راقدين على ضفاف ساحلٍ ناجينَ من غرق !
سبعة أشهرٍ من العناء كانت تجديفاً عكس التيّار ، نرتمي على فراشنا قد حظينا بالحياة مجدداً ، منتصرين رغم كل شيءٍ على كل شيء !
يا لهذه السمراء ، قبيلةٌ من النساء .. تعرفُ كيف تسلبني عقلي كل لحظة ، تتركني أتأملها أحياناً غير مصدق !
حين تتحدث .. يشبه حديثها الشعر ، حين تضحك .. ضحكتها تشرح للموسيقى شكل النغم ،
حين تريد أن تغويني .. لا شيء يمنعها أن تفعل !
أفيقُ حيناً .. لأجدها قد نزلت للحديقة قبلي .. تحب القراءة في هذه الأرض المفروشة بالعـشب ،
فأخطو عبر الدرج .. أتهادى إليها مشتاقاً .. ساعاتُ النوم كانت غيابنا الوحيـد عن بعضنا !
أجدها تخطو عبر الخضرة باسمةً كأنها تجيد لغة الورد وأوراق الشجر ، فأتأملها لأعرف كم بتّ محسوداً..
أتأملها لأروي عيني من منظر انتصاري ، وأهيمُ بعشق نفسي قبل عشقها ، هذه ثمرةُ إقدامـي !
عندما أشاهدها أرى فيها حلمي متجسداً .. يذكرني مرآها كل مرة أن الأحلام مهما صعُبت .. بقليلٍ من الإصرار تتحقق !
" عندما نكف عن الحلم ، نكف عن الحياة " هكذا قال فوربس ، وأظنني في قاموسه الآن بتّ ميْتاً !
لكني ميتٌ في جنـة الحـب وأرجو أن لا أعود لدنيـاكم!
عبثيةٌ هذه الفاتنة ، أنظرُ لها مبتسماً ، ترتدي بلوزةً طويلةً! هكذا غير عابئةٍ بالبرودة .. كأنها تعرف أن كل شيء ٍ يحبها ولن يؤذيها .. حتى الشتاء !
وتلمحـني .. لتفتحَ ذراعيها .. كأنها تنادي هذا الطفل الذي سهر معها كل الليل ، علمتهُ الغرام والغواية وشرحتْ لهُ مامعنى أن يكون المرء محظوظاً جداً !
أحتضنها كغائبٍ عنها طويلاً .. ضاحكاً من شيطنتها من عبثها من لباسها الذي كنتُ لا أشاهده إلا عبر الأفلام أحياناً ..
تدور الحديقة بنا .. وعقاربُ الساعةِ تدور سريعاً ..
وينصرمُ يومٌ حزينٌ على تركنا .. ليأتيَ آخرُ جديد، سعيدٌ بتلصصه على تفاصيلنا .
حتى قيادة السيارة باتت أمراً محبباً ، أن تكون سارة بجواري هذا يجعل من القيادة شيئاً مسلياً ..
تتكيء بجواري كطفلٍ لا يكف عن الحديث ، وحديثها لا يمل !
راشد يغني لنا ونحن نخطرُ في شوارع عاصمتنا التي صارت ممراتها وروداً وأرصفتها مروجاً عشبية ..
وأسألها عن " يا ويلي " هل تذكرين إهدائك الأول لي .. وتضحك ، وتروح تغنيها ..
وتقول سأرقص لك في الليل على أنغامها ..فأتذكر الليل، لأعرف أني الرجل الأسعد في هذه المدينة !
تفاجئني كل يوم بأناقةٍ ليست كاليوم الذي سبقه ، تتجدد باستمرار كعارضة أزياء ،
تعرفُ كيفَ تبقيني في سحرها ، كيف تنثرني على مائدة الرغبة التي كانت حراماً قبل أيام ، قبل ورقـة !
ترتدي ماكان محرماً في بيتنا على شقيقاتي !
سألتها ضاحكاً ، بربكِ هل ترتدين في منزل والدكِ هذا الجينز الضيق والشورت والبرمودا .. أم أن هذا لي وحـدي !
وكانت تضحك من بلاهة سؤالي ،نعم تلبسُ كل هذا بين أشقائها ووالدها ولا ضير في الأمر تاركةً تلك العُقـد لأهل العُقـد ! ثم تختم إجابتها بسؤالي عن شقيقاتي ..
وابتسم لها وأنا أهزّ رأسي بالإيجاب كذباً .. أخشى أن نكون على هامش التمدن في عينيها !
شيءٌ وحيد كان يضايقني ، إلحاحها عليّ كلما حل وقتُ صلاة ، وأنا الذي لم أصلِ ثلاثة أشهر .. لم أخبرها بتطوّراتي الجديدة !
أهربُ للفناء، للغرفة المجاورة،أخرج قليلاً ، وأقول : صليت ! ، وكثيراً ما كنت أراوغها فتنسى ..
رغم كل شيء.. رغم عشقها للغناء والرقص .. رغم صداقتنا المحرّمة سبعة أشهر ، رغم لثمتها التي تفضحُ أكثر مما تستر ، كانت تصلي كل فرضٍ في حينه !
كنت أتأملها طويلاً حين تصلي ..تؤديها بخشوع ..تصلي بطمأنينة ، تندمجُ في أدائها تسجد وتركع وتطيل كممتنةٍ لخالقها ..
وبالرغم من أني لم أعد أؤديها ، إلا أني أشاهدها تصلي بفرح ..حينها لا أدري لماذا أحبها أكثر ،
هل لأنها تذكرني بأمي ، أم أنّ في داخلي بقايا أوهمُ نفسي بأني اجتثثتها للأبد .. لا أدري !
ونخرج للمطاعم ، ونشبعُ إلا من الحب ، و" زهرة " الطاهية المغربية التي قدِمت مع هدايا الوالد الثمينة .. كانت في شبه إجازة ..
في الصباح الثاني قمتُ على ضحكات سارة ، كانت تحادثُ أحدهم بحفاوة ، قرّبت لي الهاتف وجاء صوتٌ لأول مرةٍ أسمعه :
- " مبروك يا عريـس "
شقيقها الكبير " مشاري " ، يدرس في أمريكا منذ ثلاث سنين ، جاء صوتهُ يحادثني بمودةٍ كبيرة ،
كانت لهجتهُ ألطفَ من والده وشقيقه الصغير .. ربما لأنه يقيم بجوار تمثال الحرية هناك بعيداً عن تعقيدات هذه العاصمة الفاضلة ..
كانت سارة تسألني بحماسة وسعادتها تكاد من فرطها أن تطير :
- ها ماذا قال لك ؟!
- قال ضعها في عينيك ، تصوّري ، هل كنتُ أحتاج وصية ً من أحدهم لأفعل ! ههه
- حسناً فيصل ، متى تريد مني أن أذهب للسلام على أهلك ؟!
آآه من مكدرات الصفو حين تمرّ من حيث لا ندري !
هذا السؤال المتكرر ، كان أسوأ مايحدث لي في أيامي السعيدة ، كان كشفرةٍ حادة تجرحُ لحظات الفرح ،
ورحتُ أزيل هذه الفكرة المختمرة في رأسها :
-سارة مارأيك أن نخرج للنزهة غداً ، سأريكِ قريتنا كما وعدتك ؟!
على الأقل ، قريتي رائحـة أهلي !
أخذها الحماسُ بما يكفي لتنسى ، كانت كطفلة ، أستطيعُ صرفها عن أي شيءٍ تريد ببعض كلمات..
تحدثني عن الصلاة عن زيارة أمي عن ذهابي لمجلس والدها فأهرب منها بمراوغةٍ بسيطة .. وتنسى !
* *
في الصالة تركتُ سارة نائمةً مع أحلامها ، حين كنتُ أحادث شقيقي محمد :
- مبروك يا فيصل !
- الله يبارك فيك .. ما أخبار أمي
كنتُ متلهفاً لأخبار أمي ، كأني أقيمُ في دولةٍ بعيدة .. لا تجمعنا مدينةٌ واحدة !
- بخير الآن ، لكني أخشى على والدي ، والدي غاضب ، لا يتحدث كثيراً !
آآآه يا أبي ، وآه يا صفعتهُ تلك .. وآه يا عينيه يوم استحالتا كرتين بيضاوين غضباً ، كل هذا لأجلِ فتاةٍ قام قلبي باختيارها !
- زوجتي يامحمد تسألني عن أهلي كل يوم ، أخشى أن ..
- انتبه يا فيصل ! لا تحضرها أرجوك .. أخبرها بالحقيقة ، والدي يرفضها تماماً ،أنت تعلم أنها ستسمعُ ما تكره !
- لماذا يحدثُ لي كل هذا يا محمد ، لماذا لا تكتملُ سعادتي ..
هل كُتب عليّ أن أواجه الدنيا وحيداً حين أحزن وحين أفرح .!
- لا أدري ماذا أقول لك.. ثم هناك خالد يافيصل، أنا لا أخيفك لكن أخشى أن ترتكب حماقةً بمجيئك، أتمنى حقاً أن لا تلتقيه ، أشدنا غضباً
- اللعنة على أخيك المجنون ، يغرقُ في حمى الأقساط والديون ويتغنى بقبيلته وحبها ..
أنا أيضاً أتمنى أن لايلتقيني لألاّ يسمعَ مني مالا يحب !
عادتْ لحظات الكآبة تهطلُ من حولي ، بدأتْ تحاصرني لتنسِلني من خيوط سعادتي ..
لن أسمحَ لأحدٍ تعكير صفوي ، ولا أنت أيها الضيق الذي تستميتُ في دهسِ فرحتي .. قمتُ مستعيناً عليهِ بحسنائي الراقدة في سريري ،
أتأملُ وجهها البريء وهي نائمة .. كانت أشبهَ بطفل ، طفلٌ لعِب وتعِب ثم نام وعلى ملامحه بقايا فـرح ،
يدها ترتمي على مكاني الخالي من الفراش .. تبحثُ عني حتى في غمرة نومها..
وتخيلتُها مجروحةً من كلمات خالد أو أبي .. وأنّ عينيها الجميلتين النائمتين تمتلئان دمعاً .. وهززتُ رأسي كما لو كنتُ أطرد هذه الفكرة اللعينة ..
ومسحتُ على رأسها في تعاطفٍ أيقظها من نومها .. أفاقت لتسألني :
- فيصل ، ماذا ، تريد شيئاً
كانت جميلةً رغم النعاس وشعرها المنكوش ، كان يعطيها ملاحةً بادية ،
ضحكتُ من جمالها الذي لا يُقهر رغم فوضى النوم..كان شرساً لا يُهزم .. طبعتُ على جبينها قبلةً ناعمة :
- لا شيء ، عودي للنوم .. غداً ينتظرنا طريقٌ طويل
..على بسمتها الهادئة كنت أرتمي بجوارها لأنام وأنسى كل شيء !
* * *
الجو غائم في الصباح ، ينطلق الموظفون لوظائفهم والطلاب لمدارسهم حين كنت وسارة نتجه لقريتنا ..أنفّذ وعداً قطعتهُ بعد إلحاح !
هذا الخط الطويل، كان مملاً ومرعباً أوقات العطل حين تمتطيه العرباتُ بكثافة .. اليوم كان هادئاً ، أنتصرُ على ضجرهِ القديم بخير رِفقة !
أنطلقُ عبره أنا وسارة وأشعر أنه بات أقصر مما اعتدته، كأنما طويَ طرفاه فوق بعضهما وصار مختصراً ..
تتكيء بجانبي وتسألني عن كل ما يلوح لنا .. تقطع الجمال السائبة الطريق فتُرعبْ ..
نمر عبر الجبال فتُدهش.. ثم يفرش الرمل جوانب الطريق كبساطٍ أحمرٍ ممتد فتتأمله بإعجاب !
- ألستُ سخيفاً ياسارة ؟ ،يفترض بي أن أسافر بكِ إلى أجمل بقاع الأرض لكني أتجه بكِ لقريةٍ قديمة!
اعذريني ، سأعوضكِ صدقيني ، تعلمينَ إجازتي محدودة، بعد الغد سأعود لطلابي
- فيصل أظنني كنتُ ألح عليك منذ عرفتك أن تحدثني عن قريتك..
صدقني لا شيء أفضل من مشاهدة مكان صباك ، لا تحدثني عن السفر والسياحة في أوروبا سئمتُ كل تلك الأماكن .. كنتُ أشعر أني في سجنٍ أنيق!
تسألني عن كل ما يخطرُ لنا .. وأجيبها كمرشدٍ سياحيّ يسيرُ مع مصطافين جاءوا من بعيد !
أقص عليها تفاصيل الأمكنة التي نمرها .. وأسمّي لها الجبال والأودية والأشعبة بمسمياتها .. كانت تضحك من غرابة الأسماء
- سارة ، تشبهين سائحةً قدمت من الغرب .. اندهاشكِ من كل شيء لا ينبيء أنكِ من أهل الرياض!
- فيصل نحنُ ننتمي لقريةٍ أعرف اسمها فقط لكن لم أزرها قط .. أسوأ مافي عائلتنا انفصالها عن ماضيها تماماً
آآآه ياسارة .. كم أتمنى لو انفصلت عائلتي أيضاً عن قديمها وأزالتهُ من ذاكرتها الصلبة!
لكنتُ الآن وأنتِ نرتشفُ قهوة الصباح مع أمي ..ولكان خالد وأبي عن يميني ويساري ليلة زواجي بك .. ولما كنتُ أهرب من سؤالك عن أهلي !
..لاح نخيلُ قريتنا فانقطعتُ عن أفكاري
- سارة ، بربك سوّي عباءتكِ جيداً ، هنا يستوطن الحرام والعيب ..صدقيني سنكون حديث عيونهم أعرف قومي جيداً!
كانت القرية هادئةً كعادتها .. والأطفال يتكدسون في فصولهم خَلَت منهم الطرقات ..
وتسللنا عبر الطريق المحاذي للنخيل .. ووقفتُ بها كما وعدتها
في هذه البِركة ياسارة تعلمت السباحة .. كنتُ صغيراً ، و شقيقي بدر كان مراهقاً مجنوناً، قلتُ له يوماً وهو يسبح أريد أن أكون مثلك !
سألني جاداً : أحقاً تريد ؟! وبحماس ابن الرابعة قلت نعم ! كان يطوّح بي بعيداً عنه في منتصفها ،
أهلع باكياً وأبتلع الماء وصوتهُ يصرخ فيني : هيّا كن رجلاً، حرك يديك وقدميك ، وحين أفشل كان يخرجني ويصفعني مرتين ثم يعيد الكرة!
أجدتها بعد أن اختنقتُ وبلعتُ كثيراً من حثال هذه المستطيلة وعكارة مائها ،
تعالي ياسارة وانظري..
هناك كان شقيقي محمد يلهو بأعواد الثقاب، طالما سرقهنّ من مطبخنا القديم، دائماً ماكانت أمي تنهرهُ وتقول : الأنبياء يستعيذون من النار وأنت تعشقها!
وذات صباحٍ لا ينسى، قدحت يديه الصغيرتين حريقاً التهم جزءاً من نخيل جدي !
يومها هبت القرية جيشاً واحداً تتخندقُ ضد النيران حتى انتصروا بعد عناء.. يا لها من علقةٍ لن ينساها محمد ما عاش !
وهنا سقط فهد على رأسه ونزف كثيراً .. كان أكثرنا عبثاً وأكثرُ من ينال نصيب الضرب .. كل شيءٍ يتم تحذيرنا منه كان يرتكبه تمرداً !
في أحد الأيام ضربه خاله أمامنا ..ضربه بقسوة ياسارة، هل تدرين ماذا فعل ؟ كتم حنقه طوال الأسبوع حتى جاء يوم الجمـعة!
انتظر حتى شرع الإمام في خطبته ، وسرق حذاء خاله أثناءها وجئنا لهذا البستان .. رماه فهد هنا في هذا البئر !
هل تصدقين .. للتو انتبهتْ ! لم أبح بسر اختفاء الحذاء الأنيق حتى اليوم .. يا لسعدكِ أنتِ أول من يسمع بهذا النبأ العظيم هههه
وهذا النخيل ياسارة مازال شامخاً رغم رحيل أصحابه ، انظري !
كل كبار القرية يعتبرون آباءً لنا .. رحلوا آباءنا وتركنا بعدهم رعاية النخيل ، أوكلناها لعمالةٍ تأتي من أصقاع العالم المُدقع فقراً !
أشعرُ أننا نرتكبُ بحق قريتنا خيانتين ، تركنا بيوت الطين ياسارة .. تركناها كأحبابٍ بدلوا حبيباتهم بعشيقاتٍ حديثاتٍ يجدنَ التأنّق ..
ثم تركنا رعاية النخيل ، غابت بصماتُ أيدينا عن هذه الباسقات، غابت أصواتنا التي كانت قريبةً منها دوماً ..
تركناها كما تشاهدين ، لعمالةٍ لا تعرفُ لغتها !
قد تضحكين ياسارة من بلاهتي ، لكن عندما يهب الهواء ويتخلل جريد النخل ، هذا الصوتُ الذي تسمعينه ليس حفيفَ شجرٍ عادي !
هذا بكاء النخل يندبُ الراحلين !
كنتُ أحكي وأظنني اندمجتُ في الحوار للحد الذي نسيتُ سارة .. نسيتُ نفسي ،
ونسيتُ حاضري وبدأت أتقلّب في فضاء الماضي والحنينُ يتسلق ملامحي بوضوح !
كنتُ أبحث في الأرض عن خطوات جدي ، كان يخرج بعد الفجر لهذا الحقل ولا يعود إلا بعد الظهر ..
وضجّ صوتُ الأطفال في أذني ، أطفالٌ لا أدري أين باتوا الآن ، خبأتهم الدنيا في زواياها بين مقبورٍ ومبتعثٍ وعاصميٍ لم يعد يحضر هاهنا إلا لِماماً !
وبحثتُ عن والدي أربعينياً تدب فيه روح الشباب .. وأمي بذوائبها الطويلة السوداء تخلو من شرائح شيب ،
وإخوتي يوم كنا نتحلقُ سفرةً واحدةً ثلاث مراتٍ كل يوم !
بحثتُ عن كل هذا وأكثر ..
بحثتُ عني طفلاً يُحبهُ والدهُ ويضحكُ له كبار إخوته ، يا للأسى ، لم أجد إلا رجلاً وحيداً ليس بجواره إلا سمراءَ لأول مرةٍ تحضر هاهنا..
يدخلُ القرية خائفاً يترقـب !
غاب الجمعُ القريب عن مشهـدي وبقيتُ وحيداً .. هذا ما يجب أن أتأقلم عليه منذ الآن وصاعداً ..
ورحتُ أجدل ذكرياتي .. مرت سريعاً كحبلٍ مشدودٍ متصل .. انقطع على صوت سارة :
- تُرى كم عمر هذا النخيل يافيصل؟
- هذا نخل جدي لأمي، ورثه عن أبيه.. يُقال أن عمر النخلة يصل 500 عام وقيل أكثر !
هل تشاهدين تلك الطويلة المنتشرة في كبد السماء، أذكرها جيداً ، قال لي أبي يوماً أنهُ منذ صِغرهِ كانت تثوي هنا ..
هي أطول نخلةٍ في الحقول جميعاً .. تقفُ كأنما تنتظرُ الغائبين في القبور ، لكنهم لن يعودوا والنخلُ لا يريد أن يفهـم !
كانت النساء يكدحنَ هنا ، ويلِدن ويستكملنَ أعمالهنّ المرهقة ، ينتشرون في الحقول رجالاً ونساءً لم يقل لهم أحدٌ لا ، الاختلاطُ جُرم !
وتلك .. تلك النخلة المنفردة لوحدها ، تلكَ أحبها وكنتُ أتولّى جلبَ الماء لسقايتها صغيراً ، تسبقني ضحكات أبي ليس لأنّ السواقي تفعلُ ذلك أفضل مني ..
لكنه سعيدٌ بعنايتي لها ، أحببتها منذ أخبرني أن جدتي ولدتهُ في ظلها ياسارة !
وذكرتُ والدي كان فتياً جميلاً تتضوّع منه طاقةُ الشباب..صار شيخاً كبيراً غاضباً مسحوقاً بيـدي !
وشعرتُ بحرارةٍ تسري في خـدي تسترجعُ صفعةً مرت قريباً ..
وتألمتُ لمنظر والدي حين صفعني أكثر من ألم خدي !
- وهذه الصغيرات يافيصل ماذا عنهن؟
- هذه فسائل النخل ، وعن قريبٍ ياسارة ستكبر، ستطول وتثمر، ثم تبقى لتكون تاريخاً يذكّر الأطفال بماضيهم عندما يكبرون!
وتبحثُ عن كل من كان هنا ثم غـاب ، النخل لا ينسى المارّين على أعتابه ..
وبلهجةٍ حالمة عاد حديث الحب يتدفق شلالاً عبر لسانها :
- فيصل أرجوك أخبر العمّال أن يهتموا بهذه الصغيرة ، سأزورها كل عام معك وستكون تاريخاً يخصنا ..
كلما تقادم بنا العهد وامتد العمر نأتي لها كل سنةٍ نجدد حبنا لبعض
مشت رويداً .. راحت تغمسُ يدها عبر السواقي التي تطفح بالماء المندفع ،
كل الأطفال توقفوا عن الركض ، رحلوا ، وبات هذا الماء المنهمرُ يلهو وحده !
ورأيتُها تتأمل المكان المفروش بالبرسيم والقمح ويقف فيه النخيل طاعناً هذا الهواء ..
عمّ تبحث ؟ كأنها تبحثُ عني طفلاً في هذه الأرجاء :
- الأسواق والمتاحف والمباني الشاهقة في باريس وميونخ، لا تصنعُ ذاكرةً جيدةً لطفل !
فيصل أنت محظوظ.. كم تمنيتُ طفولةً بريئة كطفولتك .
وابتعدنا عن فوتوغرافية صباي ، وتسللنا عائدين وأنا أردد في رأسي آخر مانطقتْ به :
" فيصل أنت محظوظ " هه، لأنكِ لا تعرفين شيئاً !
34
صباح الغـد ، أخبرتُها بذهابي للخرج طلباً في تمديد اجازتي يومين آخرين .. وكنتُ أكذب !
أقف أمام باب بيتنا حتى غادر والدي .. رأيتهُ يخرج صبحاً ويمتطي سيارته ويذهب ، بدا لي أنه بات كبيراً جداً كأنما شاخ مرةً أخرى في يومين !
كم كان قلبي يبكي ويعتصرُ ألماً .. وددتُ لو أرمي فوق رأسهِ قبلاتٍ واحتضنهُ طالباً الصفح ، لكنهُ سيلفظني عن طريقه .. ثم سأكون عبئاً على ذاكرة يومـه !
تباعد والدي .. شيّعتهُ بنظراتٍ كانتْ للقبلاتِ أقرب ، ومسحتُ حزني عن صباحي ..
وتسللتُ لواذاً أقتحم منزلنا القديم كلص!
صوتُ القراءة يهطلُ عبر المذياع .. تستلقي أمـي على سجادتها وأمامها أدوية الصباح .. لم تدري بالواقف خلفها ، بماذا تفكر ؟! ليس إلا أنا !
- صباح الخير أمـي !
ياللمسكينة.. كعادتها !
لجأت للدموع التي تتقن الحديث حين يُلجمها الحزن عن الكلام ،
كنتُ أقبل رأسها واحتضنها لدفء صدري ..وأعتذر، عن ماذا ..؟ أعن حقي في اختيار من أحببتْ؟!
- لماذا فعلت ذلك يافيصل
كانت تأنّ سؤالها،
- يا أمي أرجوكِ كفي الملام .. سبعة أشهر من العذاب ، كنت ممزقاً لكنكم لا تعرفون ..
سبعة أشهرٍ كنت أواجه صراعاً وأحزاناً لا تنقضي ، حتى إذا تمكنتُ من حلمي ، رفع الكل يديهم عني ونفضوا قلوبهم مني .. فقط لأني أحببت،
كل شيءٍ يدركه احتمالي إلا أنتِ ..أرجوك لا تغضبي.. أقسمُ لك أن الأقدار جرت بما لم يكن في حسباني، كل شيءٍ حدث فجأة !
راحتْ بقلبها العطوف تسألني عن زوجتي وصفاتها وحياتي معها ..
وكنتُ أخبرها بأن حياتي كما يرام إلا من هواجسي بشأنكِ يا أمي وغضب والدي !
- والدك غاضب منك، لكن لاتنقطع عنه أرجوك.. أنت تعرفه جيداً سيمنحك رضاه يوماً يافيصل
أحقاً سيسامحني !.. وسيعامل سارة كما يعامل زوجات أشقائي حين يأتين إلينا ..
كان يخاطبهن ويدللهن أكثر من بناته ..
أوَحقاً سأجلسُ أنا وسارة هنا معهم يوماً من الاسبوع كما يفعل أشقائي ؟!.. آآه متى تتحققُ أمانيّ لأرتاح ويتمّ لي عهد الصفو ؟!
ارتشفتُ معها "فنجالاً" سوّته يدها .. قهوةٌ لن تتقني يا زهرة ولا أيتها المطاعم والمقاهي الإتيان بمثلها وإن حرصتم !
هذا لمسةُ أمي، وطعم أمي ، ورائحة أمي ..
ثم لم أطِل مكوثي ، كنتُ أهرعُ للخارج سريعاً.. أخشى أن أضبط بجُرم زيارة أمي !
* * *
في المساء كان مجلس أبو مشاري يعج بأنسبائه ورفاقه ، وكنتُ بينهم كأخرس .. يبتلعُ الصمت لساني في زحمة الحضور !
كل يوم اثنين ، يكون هذا الجمع المعتاد ، جمعٌ زاد ضيفاً جديداً اسمه فيصل !
كان حضوراً نبيلاً .. لولا إلحاحُ سارة ماكنتُ أتيت !
تباً لعينيّ القرويّتين .. ها قد دبّ فيهما جينُ الفضول ، راح يشبرُ المجلس فرداً فرداً ..
منذ جئت وأنا لا أنفكّ من إعمال عقلي ورميه في جحيم المقارنة بيني وبين الصافّين في المجلس الفاخر ..
تركتُ لعيوني الحديث، حين كانت أبجديتي غادرتني في حضرة الغرباء !
أزواج بناتهِ لا يقلّون عنه ثراءً ، هكذا فهمت من سارة ، هكذا رأيت !
زوجُ منى من تجار العقار ، زوجُ رحاب رجل أعمالٍ حـرة ، ناجحٌ بما يكفي ليتردد اسمهُ في الصحف أحياناً !
ثالثهم شابٌ يكبرني قليلاً في العمر ويكبرني جداً في الثراء.. وليد زوج عهود ، أبوه وزيرٌ سابق ..
وذاك أحمد زوجُ فريال ، يرأسُ شركةً كنتُ مضحكاً وأنا أتهجأ نطقها بالانكليزية !
والخامس، آخرُ الحضور ، زوجُ سارة ، أبلهٌ يدير عينه في الجمع، معلم بمرتبٍ سيُضحكهم سماعه، وابنٌ لحارس مدرسة!
كنتُ مثار شفقتي .. وكان تركي سعيداً والأحاديث تدورُ بانسجام وقد تركني الجميع غارقاً في بحرٍ من التهميش ..
كان أبو مشاري يعاملني بفتورٍ ، كنت قبل ذلك أعزوهُ لقوة شخصيّته ، حتى أدركتُ غبائي حين كان بشوشاً مع بقيّتهم !
يسأل زوج رحاب عن صحة والده ، ويطمئن على صحة عم وليد في العناية المركزة ،
وكنتُ أمامهُ مباشرةً وكان يقفزُني لغيري..هه ! هوَ لا يعبأ بأمثال أبي !!
يدور حديثهم عن مخططات الأراضي ، عن المشاريع .. حتى تركي يجيدُ المشاركة في هذه الأحاديث الطويلة ، ووحدي من يُتقن الصمت هنا ..
لو تحدثوا عن الهلال كـ فهد ، لو تحدثوا عن التعليم ، لو تحدثوا عن الحـب ، لو تحدثـوا عن الكتابة والقصص .. سأكون مبهراً ..
لكن حديثُ المال ليس لأبناء البسطاء .. أخذتُ مكاناً قصياً ورحتُ أمارس الفرجة لا أكثـر
لم يراعي وجودي أحـد .. كانتْ تمرني من بعضهم لمحةٌ ثم ابتسامةٌ تأتي كصدقةٍ في خضم الحديـث !
لم يسألني أحدهم عن أي شيء ، وللحق لم أبحث عن أسئلتهم...
كنتُ أبحث في عقارب ساعتي علّها تتقدمُ سريعاً .. كانت تسير ثقيلةً أثقل من حديث هذا الجمع المريـض بالمال والزيـف !
- حسناً ، أستأذنكم لديّ موعدٌ مهم .. إلى اللقاء
قلتها وخرجتْ ، لم أحتمل البقاء أكثر ..
وأدركتُ أني لم أكن بحاجةٍ لأقول جملتي السخيفة " موعدٌ مهم " .. قلتها وكأنّ أحداً سيلح علي بالبقاء .. يا لبلاهتي !
حين كنت أرتدي حذائي كانت عينا تركي ترقصان جذلاً ..
وطرأت جملته في رأسي قبل الزواج بيوم " هذا البيت ليس لك فيه شيء ، تأخذ سارة وتنصرف من حياتنا " !
وأظنه صـدق !
أعزي نفسي قبل الخروج وأنا أدلفُ عبر البوابة الكبيرة :
- طالما سارة معي ، طالما حصلتُ عليها .. فاللعنة على كل من في هذا البيت !
* * *
لم أقل لسارة في الليل شيئاً عن تهميش والدها .. عن نظرته المزدريّة ، عاملني بشيءٍ من احترام حين جئتُ خاطباً .. لأنه عاملني كصفقة !
صفقةٌ تستر بنته وتقطع دابر فضيحةٍ ملغومة ، اشتراني ولم أعرف ، كسب فتاته وسمعته ورمى بي في بنك أرباحه من حيث أدري ولا أدري ..
حين تمّ كل شيء .. صادر حتى قليل الإحترام الذي أبداهُ لي أول لقاءٍ تم بيننا ..
سألتني عن والدها فكذبتُ كثيراً ! ورغم موجة إلحادي تمتمتُ باستغفاري ..
كنتُ متعكراً حد النوم باكراً .. تركتُها تسهرُ مع قنوات الفضاء وأسبلتُ عيني للكرى .. مغتاظاً !
أخبرتها أننا في الصباح سنذهبُ لمكانٍ سوف تحبه ! لم أقـل لها أكثر من ذلك ،
كنت أحملُ بصيصاً من أملٍ عرفتْ أمي كيف تملؤني به ،
كنتُ قد عدتُ منها بالأمس وأنا سعيد، بعد أن أزمعتُ معها أمراً ..
في الصباح أخذتُ سارة وانطلقتُ بها باكراً :
- إلى أين فيصل ؟
- سنتناول قهوة الصباح عند امي.. أليس هذا ماتريدين
أمام بيتنا الصغير وأبوابه القديمة وطلائه المقشر ..
كنت وسارة نصعد درجات الباب وندخل ، كنتُ وقّتُ زيارتي بما لا يدع مجالاً للشك أن أبي قد مضى لمدرسته التي تنتظرهُ أبوابها!
وأشاهد عينا سارة تدوران في المكان بغرابة ..
يبدو أنها لا تصدق أن هذه البيوت تعج بالبشر وتصلح للسكنى ..
لم أتبرّم .. حُقّت لها الدهشـة .. في بيتهم هناك ، الفناء لوحده يبتلع بيتنا بأكمله لو أراد!
أظن الطيبة لو خُلِقتْ من تراب .. لكانت في صورة أمي !
وأظنّ الرحمة لو أرادت أن تتكلم يوماً .. لاستعارت نبرة أمـي !
وأظنّ القسوة لو تجسدت بشراً للحظة ، لعرفت كل العاجّين في المدينة والرائحين والغادين ، نسائهم ورجالهم ، إلا براءة الأطفال و وجهَ أمي !
كانت أمي في انتظارنا .. وكأن البيت كله، بجدرانه وسقوفه وزواياه ينتظر إطلالة سارة!
حتى الخادمة، كانت تقف فضولاً لمشاهدة الزوجة الجديدة ، زوجة فيصل ذاك الشاب الذي خرج من البيت ذات ليلٍ ولم يعـد..
مدّت سارة يدها في ذهول ، كانتْ ترى أمي لأول مرة ، وقامتْ لها أمي كما تقومُ لأي ابنةٍ من بناتها ..
لم تثنِها ركبتيها أن تقوم لتقبّل سارة ، الأنثى التي انتزعت فتاها وشقّت في أساس البيت صدعاً سيطولُ ردمه !
قبلتها أمي ، ضمتها لصدرها وسألتها عنها عن أمها وتختم بالدعاء كل جوابٍ تسوقه سارة في ذهول ..
وأنظر لحنان أمي مبتسماً وأفكر:
أولئك لم يسألوا عنكِ أنتِ ولا أبي يا أمي، يهشّون ذِكراكم كما يهشّون حشراتٍ تطوفُ فوق رؤوسهم .. لم يسألوا عنكِ حتى وأنا الآن زوج فتاتهم !
كانت أمي تدفن كل أوجاعها لترسم على ملامحي الباهتةِ ربع ابتسامة ، أنا الرجل الذي لم يجد في غمرة أفراحهِ مشاركةً من أحد !
انا الذي لم يسمع من أهل بيتهِ مباركةً في أهم ليالي عمره الكئيب !
كانت أمي تعلّم سارة كيف تكون رقة البسطاء .. وطيبة البسطاء .. وأن غبار المدينة لم يلفح كل وجوه القاطنين ..
.. هناك من يبقى في صفاءٍ لا يكدره القَتَر !
أمي ليستْ كأمهات تلك البيوت وتلك القاعات الكبيرة ، تلك المتشحات بأقنعةٍ تخبيء وجه الإنسان فيهن ..
حتى سارة تعرفُ الآن ذلك جيداً ، أظنها بدأتْ تُقارنُ كما كنتُ أفعل طويلاً منذ عرفتها ..
كانت تسأل سارة عني وعن أهلها وعن صلاتها ، أمي تجيدُ منح الدفء لكل مقتربٍ منها ..كنتُ خجلاً من بيتنا من مساحته الضيقة من أثاثه البائد لكن أطاول السماء فخراً بأمي !
كانتْ سارة على وشكِ أن تنام على ركبتي أمي وحديث أمي ومسحات أكفّ أمي ..
صوتُ سيارةٍ تتوقفُ أمام باب الفناء .. من هذا العـائد باكراً !؟
أظنني من فرط الخوف بدأتُ أنازع !
خطواتٌ أعرفها جيداً ، تقترب لترسمُ ظلّ رجلٍ أسفل الباب .. رجلٌ أعرفه !
صوتُ المفتاح يثقبُ الباب ثم يُفتح، و يطلّ أبـي ..
وعلى منظر عيناي الخائفتين و وجلِ أمـي تُدرك سارة أن الأمر جلل !
مشى رويداً .. كان ينظرُ لي وينظرُ لسارة .. ينقّل عينيه المتعبتين بيننا في صمت ، سكتتْ أمي وجمَد كل شيءٍ بدخول أبي !
قمتُ أشبهَ بطفلٍ بدأ تعلم المشي بعد الحبو .. ترنحتُ في طريقي ماداً إليهِ يميني ، ما موقفي حينَ أُصفع الآن أمامكِ ياسارة !
التقطتْ يدي يدهُ التي لم تُمـد !
قبلتُ رأسـه الذي كان يحاول أن يتراجع !
وجاءت سارة من خلفي تمارس ذات الطقوس .. لكنّ والدي كان يـمد لها يده ، تمتم بعبارةٍ لا أظنني أتخيلها :
- " هلا، حيّاك الله " !
نعم قالها لساره .. لستُ أهـذي ولستُ أحلم !
قالها ثم مضى شاقاً طريقهُ للخروج مجدداً من حيثُ جاء .. كان وجههُ متعباً وأظن ذاك يفسّر أوبتَه !
- فيصل !
كان يناديني قبل أن يخرج من حيث دخل مع ذات الباب !
اقتربتُ منه بعيداً عن المرأتين في وسط الفناء ،
وهمس في أذني بحيثُ لا يصل حديثه للفتاة القابعة بجوار أمـي :
- لو رأيتُك وحدك .. لطردتك ! لكنها تدخلُ بيتي للمرة الأولى ، لن أطردها وقد جاءت ..
سأعودُ بعد عشر دقائق ، إختلق أي عذر .. ولتخرجْ ، أي عذرٍ يا فيصل .. لكن لا أريد أن أراك بعد أن أعـود !
ثم لا تحضر هنا حتى أمـوت .. أتسمعني ؟ حتـى أمـوت !
قالها لاهثاً يغالب تعبـه ، أغلق الباب خلفه وخـرج !
دقيقتين وانطلقتُ بسارة مسرعاً .. خارجاً من بيتنا من حيّنا مطروداً للمرة الثانية .. لكنهُ طردٌ طويل الأجل !
كنتُ أمسح دمعتي ، وسارة تلح ماذا قال ماذا جرى يا فيصل :
- ولا كلـمة ! اسكتـي ! تلحّين على زيارة أهلي ـ أهذا ما تريدين أن ترينه ؟! والدي لا يريدني ..
لا يريدني كفّي عن الإلحاح كفّي ..
لديكِ أهلكِ يا سارة .. ولديكِ من تحبينه .. بربكِ اتركيني لا تعذبيني بسؤالي عن هذا البيت أبداً ..
- لا يريدك لأنه لا يريدني !؟
كان الغضب يتدفقُ في رأسي .. ومنظر والدي متعباً كسيراً كان يمزقني ،
تعاطفه معي رغم تحطيمي له كان يعذبني أكثر .. ليتك ضربتني يا أبي !
وصوتُ سارة ينهمر أخرى :
- فيصل لا تغضب ، لا تبكي ، ها أنا بجوارك .. وأهلي أهلك ، والدي والدك ..
كان دماغي في حالة غليان ،آخر ماينقصني هذه العبارة! شعرتُ باشمئزازٍ من جملتها الأخيـرة ، أوقفتُ سيارتي ورحتُ أصرخ فيها :
- والدكِ ليس والدي ولن يكـون ! والدكِ يحتقرني أتفهمين ؟ يحتقرني. ! ومن الآن أخبرك لن أعود لمجلسهِ أبداً !
صلافته وكبرهُ يمنعه حتى من اعتباري زوجاً لك .. كان يتوارى عن تقديمي لضيوفه .. يقدّم كل أزواج شقيقاتك ويحتقرني
ياسارة والدي كان بإمكانه الآن أن يدهسني .. أن يصفعني أمامك ، أن يسمعكِ كل ماتكرهين .. لكنهُ خرج .. خرج رغم مرضه وتعبه وشحوبه ،
لم يسئ إليكِ رغم سحقي له في سبيل الحصول عليك.. أقسم لكِ أني سحقتهُ تماماً قبل أن أصِل لكِ زوجاً !
أوتعلمين لماذا خرج .. هو لا يريدُ أن يجرحكِ كما يفعل والدك المتعجرف ! والدي ليس كوالدكِ يجيد احتقار ضيوفه ! إياكِ أن تكرريها إياكِ والدك ليس والدي
عاد صوتها مبحوحاً ، هذه البحّة ، أول مراسم البكاء عند سارة :
- فيصل هل تدرك بماذا تتلفظ ؟ أنت تهينني .. تهين والدي ..
طالما لسنا " أصحاب واجب " كما تهذي ماذا تريد مني .. لماذا جئت ..لتسمعني هذا الألم
أوهووووه .. أوقفتُ سيارتي جانباً .. تركتها تبكي في المرتبة وأشعلتُ سيجارتي وبدأتُ أتأمل الطريق والسابلة كتائه !
فكرتُ كثيراً في حديثي في حديثها .. في صوتِ أبي المُتعب في امتقاع وجه أمي في اكتئاب هذا الصباح السعيد بغتة !
فكرتُ في هذه المسكينة ، ماذنبها في أن والدها ممتليءٌ بصلافته الزاكمة للأنوف !
فتحتُ الباب وعدتُ لمقعدي ، وعلى الفور كنت أرسم طريقاً جديداً لحياتنا :
- أحبك وتحبيني ، هذا هو المهم.. كل شيءٍ سواه لا يهـم !
دعينا نعيشُ حياتنا دون أن نُرهق أنفسنا في البحث عن الفروقات ، لا شأن لنا بمن حولنا ! أتسمعين ؟!
وانطلقنا لبيتنا البعيـد عن بيت أبي ..القريبِ من بيت أبيها !
كانتْ تمسح دمعها ، حين كنتُ أمسح عن جبيني عرقاً يتفصد ، وعن وجهي شحوباً يرتديه !
لكنّ ألماً في داخلي لن يُمسح ، هناك في أعمق أعماق جوفي ،
صداه يتكرر في داخلي :
" لن أطردها ، خذها واخرج، ثم لا تعـد حتى أمـوت " !
يتبع ...