31
اليوم الثالث لي في المستشفى ، تأوهتُ كثيراً و جسدي يتكدسُ فيه الألم .. لكني بخير !
بدأتُ أتعافى حقاً منذ مكالمة والد سارة ، منذ عرفت أن الحلم بات في قبضة كفي محصوراً بأصابعي الخمسة ..
هذه القطعة الحمراء النابضة في أجوافنا هي مصدر مرضنا وعافيتنا ..
هذا القلب الذي يغني الآن ألحان الفرح ، هو سر عافيتي رغم كل آلامي التي يأن لها جسمي ،وليس مهماً لأنّ روحي الآن ترقص !
يتحلقون حولي زائرين ولا أرى إلا سارة ، يسائلوني فلا أجيب .. مشغولاً بسؤال قلبي السعيد : أحقاً نِلتُكِ ياسمراي الجميلة ؟!
محمد وبدر أشقائي ، فهد وسلمان وصالح أصدقائي ، يحيطونني كما تُحيط بي البهجة رغم زرقة عيني وصداع رأسي وجبهتي المندوبة ..
- " كنت واقفاً أمام آلة الصرف البنكية وهجموا علي يريدون سرقتي ، لم يفلحوا واشتبكت معهم "
هكذا أخبرتُ الجميع من حولي ، وعينا فهد تُرسل لي نظراتٍ تقول " لا أصدقك " ، لكنهُ يقرأ في عينيّ أيضاً " أرجوك اصمت،نتحدث لاحقاً "
لو عرفوا أني تنازلت للشرطيّ الذي جاء يأخذ أقوالي .. لو عرفوا أن الجناة ينامون الآن في حجراتهم الأثيرة ،
لو عرفوا سبب ضربي .. لانفضوا من حولي قياماً وتركوني وحدي ..
.. وحدي إلا من هذا المغذي الرتيب الذي يُرسل قطراته كالندى تنسابُ في عروقي !
تحدثوا لي كثيراً ولم أكن أصغي ، كنتُ شغولاً بأسئلتي : متى سأتحدث لسارة متى سألتقيها !؟
اشتقتُ صوتها وبحة صوتها واشتقتُ لعينيها أكثر ،
شهران ونصف الشهر من القطيعة ، أشبهَ بانفصالٍ عن هذه الدنيا لمدة عشرة أسابيع ..
كانت حياتي تسيرُ متصلةً حتى توقفتْ، وحل الموت سبعين يوماً ، ثم الآن أعود لهذه الدنيا رجلاً جديداً ليس الذي كنته !
تصقلنا التجارب ، والمغامرات في هذه الدنيا تعلمنا أن نتمرد على الإنسان الخائف المُطيع فينا ، وأنا رجلٌ قتل الخوف وآمن بالجرأة :
غياب سارة ، صراعي مع غيابها الأشبه بوحشٍ كاسر ، عشرة أسابيع من المواجهة المستمرة مع هذا الخصم الذي لا يتضعضع ،
تمردي على قيمي الدينية والعائلية ، كتاباتي الموجهة ، صراعاتي مع التيارات الفكرية الأخرى ،
ثم بحثي عن حلمي مجدداً ، وقوفي في وجه أبي وشقيقي الأكبر خالد ، مجابهتي لوالد سارة في عقر داره كمحاربٍ لا يأبه لرأسه إن تدحرج ،
كل هذا .. خلق فيني رجلاً آخر ، آمنتُ بشراستي وأن الحياة لن تكون صعبةً إلا على الجبناء ،
حتى الضرب الذي تلقيته غدراً من شقيقها ، تنازلتُ عنه في أنانيةٍ مفرطة ، كنت أنانياً بحق جسمي ومنحازاً لقلبي ، استغللتُ الموقف لصالحي جيداً ..
كنت انتهازياً وأنا أطوّع الأمر لمصلحتي .. هكذا عرفتُ خصالي الجديدة .. خصالاً لم أعهدها فيني من قبل !
ضجيج حديثهم حولي لم يمنعني من الانتباه لرجلٍ يسأل الممرضات عن نزيلٍ يبدو أنه أنا !
هاهي الممرضة تشيرُ بيدها ناحيتي مبتسمة ، وهاهو يتجه صوبي ، يدلفُ باب الغرفة قاصداً سريري من بين المرضى الممددين ..
أظنني عرفته !
بمزيدٍ من التحديق أبانَ عن ملامحٍ آسيويّة ، كان يحمل بوكيه ورد .. وعرفته نعم :
سائس الهودج الفيراني ، سائقُ سارة !
أومأ برأسه تعاضداً مع حالتي وقال بلهجةٍ عربيةٍ محطمة : " سلام عليكم "
وضع الورد وعلبة الشوكولا الفاخرة بجواري ثم انصرف.. وصعَدَت عيون زوّاري ترصد هذا الرجل الغريب وهديّته الأغرب ،
ولمحتُ بين الورد ورقةً مغلفةً ربما كانت رسالة، وتسارع نبضُ قلبي الذي أدركَ أنها قادمةٌ ممن يحب !
" ليت فيني ولا فيك فيصل، سلامتك يارب ، .. حبيبتك سارونة "
ننجح كثيراً في دفن حزننا عن عيون الآخرين .. لكننا نفشل حين نحاول ذلك مع الفرح !
عيوني المتلألئة سعادةً .. تنهيدتي الحرّا ، انتشائي الفجائي ...بسمتي رغم الجروح ، كل هذا أخبر زوّاري أن الأمر خاصّ وجداً ..
..لم يسألوا !
* * *
الساعة الآن العاشرة ليلاً ، غداً موعد خروجي هكذا أخبرني الطبيب ، يرقد المستشفى في بحرٍ من الصمت ..
يقطع هذا الهدوء آهةٌ تنبعث من أحد الراقدين ، أو مرور ممرضةٍ تمشي مشياً رتيباً لتحقن أحدهم ،
وصوتٌ كئيبٌ مزعج يندّ من جهازٍ طبي ، يقيس سرعة نبض الرجل الماكث بجواري ،
وسألتُ قلبي : ماذا عنك يا قلبي ؟! أظنهم لو وضعوه فيكَ لنبضت باسم سارة، كلما قرأت الرسالة صرتَ أسرع من ليلٍ كان يروحُ معها !
وفهد الذي يجلسُ بجواري مرافقاً هذه الليلة ، لم يسألني عن أي شيء .. كأنما يخشى الإثقال عليّ وينتظرني لأبرأ كلياً /
من الصعب أن تحمل سراً لوحدك .. قررتُ الحديث أخيراً .. قررتُ التخفف من حِملي السعيـد !
- ماذا تظن الأمر يا فهد ؟! هل تصدق أن الأمر سرقة ؟!
بثقةٍ بادية أجابني وهو يتكأ على قبضة يده فوق الكرسيّ المقابل لي :
- بالطبع لا ! كنتَ ذاهباً لمقابلة والد سارة .. هذا يفسر كل شيء !
ابتسمت وأنا استوي قاعداً على فراشي :
- آها .. تظن أن والدها قام بضربي أو أمر بذلك ؟! حسناً .. سأخبرك بكل شيء ياصديقي :
ذهبتُ إليهم ، استقبلني الأب وابنه ، أخبرته بكل شيء ..لا أقول لك لم يغضب ،نعم غضب ، لكنه تفهّم الأمر كما أعتقد ..
كان مخيفاً مهيباً يا فهـد ، هؤلاء الأثرياء محصّنين بالمال والمال له سطوته ، المنزل الفاخر المجلس الكبير كل هذا كان أشبه بمغامرة ..
في النهاية أقنعته ، أظن ذلك !
سألني عن أهلي وأخبرته .. نعم يا فهد أخبرته بكل شيء ، الحقيقة ولا غير الحقيقة ، لكنه لم يهتم لأمر أسرتي كثيراً !
ثم خرجت لأجد شقيقها يترصدني .. نعم هو من قام بكل هذا ، وأريد ان تعرف أني تنازلت لأجل سارة ..
- تنازلت ؟!
- تنازلت أو لم أتنازل ، في النهاية نفوذ والدها سيخرجه ، لكني استغللت الأمر لصالحي ، قلت له أتنازل وأسامح لأني أريد القرب منكم !
كل هذا أشعرهُ بصدقي .. - ثم ابتسمتُ ظافراً وأردفت :
.. وأعطاني موافقته !
صوتُ الكرسيّ الذي سقط على قيام فهد مهتاجاً أيقظ المرضى :
- وافق! ستتزوجها ؟! مجنون ؟!
تأكدتُ الآن أن فهد لم يضع هذا الإحتمال في رأسه أبداً .. ربما كان يظنني سأُطرد من منزلهم كأي متسولٍ يُنهر فـ ينصرف !
كان قد حاول منعي قبل التوجه إليهم فلم يفلح وعندما صممت ..كان يتعزى بطردي ..
جزم أنهم لن يوافقوا .. لم يدر بخُلده أني سأحظى بحلمي :
- نعم ، رغم كل شيء سأتزوج ..
كانت الصعوبة تكمن في موافقة والدها يافهد، وبعد أن حظيتُ بالموافقة .. كل مابعد ذلك سيكون أسهل !
أوووه، اللعنة على صديقي .. أليس مرافقي الذي سيخرجني غداً ؟!
لماذا أعطاني ظهره الآن غاضباً وخرج !!؟
تركني لوحدي مع سعادتي التي تحيطني .. وشممتُ الورد بحثاً عن رائحة سارة ولم أجدها ،
كانت رائحةً الورود عطريةً لكنها لم تكن أجمل من عطر حبيبتي !
ونظرتُ للرسالة مرةً أخرى ، وتأملتُ خط يدها .. هل كان خطها جميلاً أم أنني أتوهم ..!
كل شيءٍ منها يأتي جميلاً .. حتى الحرف الذي تخطه يبدو شهياً !
في النور الخافت الذي يهيمن على الغرفة الكبيرة ، وصوتُ المتأوه الذي بجواري .. و أرقي الذي طال ولم أنم ،
خفق قلبي بسرعة ، خفق بغتةً في في ثانيتين .. أجزم أنهُ خفَقَ قبل رنين هاتفي !
بدأ الخفقان أولاً ثم بدأ الرنين ، أتُراك تشعر بموجات حبيبتك يا قلبي قبل أن يصرخ بها الهاتف ؟
ونظرتُ للشاشة ووجدتُ الإتصال رقماً غريباً .. عشرة أرقامٍ في شاشتي ظننتها ترقص ،
ومسني شعورٌ غريب تجاه هذا الإتصال ..و قلت ألو بصوتٍ خفيض :
- السلام عليكم
هذا صوتٌ سأموتُ مانسيته ، صوتٌ أذكره جيداً رغم مسافة السبعين يوماً !
كأنما ودعته أذني مساء البارحة لم ينقطع منذ شهرين وأكثر ..
- كيف أنت الآن فيصل !
لا أحد ينطق اسمي أفضل من هذا الصوت ، ولا يكون اسمي جميلاً كجمالهِ حين يُزف مع هذه النبرة !
- سارة ؟!
- أجل .. أنسيت صوتي !؟
- هل جننتِ ؟!
وأردتُ السيطرة على صوتي ومداراة انفعالي ، أردتُ كبح جماح فرحتي ولم أسطِع ،
تباً لهذا المريض الذي يتأملني الآن ، يُدرك الآن أني بصدد لحظةٍ مهمة !
ورحتُ أهمسُ في أذنها موارياً حديثي عن جموع الراقدين :
- أرجوكِ سامحيني عن كل شيء، سامحيني على كل ألم ٍ سببته لك ، أرجوك سامـ...
- لا تعتذر ، أنت سامحني على انقطاعي ، أقسم أني حاولت كثيراً أن أعود إليك ولم أقدر ..
- هل أخبركِ والدك أني كنتُ لديه قبل يومين !؟
- نعم أخبرني ياسيد مجنون ، فيصل أليستْ غريبة هذه الدنيا ، أكون على وشك الإنتحار ثم يزف لي الخبر السعيد فجأة !
- انتحار !؟
- أقسم لك رادوتني نفسي عن الانتحار ألف مرة ، الحياة بعيدةً عنك ماعادت تُطاق ..
يافيصل تعذبتُ كثيراً وتألمتُ نفسياً وجسدياً ، لكن صدقني .. كل شيءٍ كان أخف من الفراق !
الفراق وغياب الأحباء يافيصل سياطٌ تجلدنا كل ذكرى ، أنتَ لم تغب عن مسرح حياتي مطلقاً ..
كانت تتحدثُ بصوتٍ متعب ، وتمنيتُ لو كنت طائراً يقطع هذه السماء بجناحيه فأكون بجوارها لأحتضنها وأواسيها ..
- يا للمسكينة يا سارة ، كانتْ حياتك تسير هادئةً حتى اقتحمتُها ، أحلتُ ليلكِ عذاباً وأيامك جموعَ مأساة ..
- لا يافيصل لا تقل ذلك ، رغم كل شيء .. أنت أفضل ما حدث لي !
- هل تذكرين تلك الليلة المشؤمة ، يوم صرختِ باسمي ولم أغنِ عنكِ شيئاً !؟
- آآه لا تذكرني .. مازالت حتى اليوم تهطل في ذاكرتي كالكابوس ، أُفيقُ من نومي لأصرخ يا فيصل ..!
- كنتِ يومها ياسارة تخفين عني خبر موافقتك بالزواج من منصور ، هكذا عرفت من صديقتك ،
لولا تلك الليلة ، لولا ذلك الإقتياد الهمجيّ .. لكنتِ الآن زوجةً لغيري !
وشعرتُ بصمتها خجلاً .. ورحتُ أتحدث رغم الألم رغم المرضى رغم هدوء المكان وحديثي المتصاعد في فضائه:
-نعم ، لولا ليلتنا تلك ، لما كنتُ الآن رجلاً يقبض الحلم بيده ، أليس غريباً يا سارة أن يحدث لك شيءٍ تظنه الأسوأ في حياتك ، لتجده في ما بعد كان خيراً لك !
نعم تألمت شهرين ، وفقدتكِ شهرين ، لكنّ الشهرين ليست كالغياب إلى لأبد !
صدقيني كنتُ سأموت لو رحتِ لغيري .. أقسم لك كنت سأموت، الحياة بدونكِ أشبه بالمكوث في مقبرة !
لا ياسارة ، لا تتبرمي ولا تضيقي .. واسعدي بتلك الليلة .. كانت على هولها ورعبها ليلة إنقاذٍ لحبنا المجنون ..
- ألم أقل لك يا فيصل بأن الرياض لا تُكره، ولا تَكرهُ أحداً من أبنائها ؟!
- نعم قلتِ .. وكرهتها شهرين .. لكنها باتت كريمةً معي في الأخير ، هل تذكرين حديثي لكِ عن القُرى ؟!
سأذهب بكِ كما طلبتِ .. ستشاهدين طفولتي ونخيلنا وبيوتنا الطينية القديمة ..
أعدكِ ، سأقف على الأطلال وأنتِ بجواري تحيلين كل شيءٍ لبهجة ..
هتفتْ بسعادةٍ غامرة :
- أحقاً سنكون لبعضنا يا فيصل .!
- نعم ، سنكون لبعضنا .. لا شيء بعد الآن يقلق صفونا ..
وهل تذكرين حديثك عن بيتٍ يلمّنا ؟ يوم قلتِ " سأجعلك الرجل الأسعد " ؟ تأهبي لإنفاذ وعدك .. سيجمعنا بيتٌ ياحلوتي !
- ستمشي على قلبي يافيصل لن تمشي على الأرض ، ستنام في عيناي .. سأكون لك الأم والزوجة والحبيبة ..
وذكرتُ أمي .. وانقبض قلبي !
آه يا أمي .. سأهجر والدي وإخوتي وقبيلتي .. لكن تبقين وحدكِ شوكةٌ تُغرز في قلبي وندبةٌ لن تُشفى في وجه حياتي !
وطردتُ طيف الحزن من عقلي، ليس ذا وقت الدمع ذا وقتُ الفرح !
- وسننجب طفلين ياسارة ، أريدهما طفلاً وطفلة ، سعود و العنود ، وسنكون أسعد زوجين في الدنيا ..
وراحت تضحك ناشجةً دموع الفرح .. وشعرتُ بالمستشفى مسرحاً تُعزف فيه اوكسترا احتفالية ،
وحلق قلبي في جوانبه كطيرٍ سأم الأقفاص واعتنق الحرية ..
يا للسعادة أخيراً .. أسرعي يا أيامي، واركضي أيتها الدنيا ليتحقق كل شيءٍ أريده ..
- فيصل ماذا فعلت بدوني هذه الفترة الطويلة ؟
- أووه يا سارة ماذا أقول ، صرتُ وحشاً أقسم لك ! وحشاً لا ملامح له ولا قلب ، لم أعد أعرف طعم الحزن كنتِ كل حزني ..
ولم أعد اتذوق طعم الفرح كل الفرح انصرف معكِ يوم انصرفتِ، بتَ رجلاً آخر .. كل أيامي موحشة ..
كنت أشعر أن في داخلي فراغاً، ليس ثمة روح ، خراب مدينةٍ تحطمت بعد حربٍ مسعورة !
أشلاء يا سارة .. أقفُ كل صبح ٍ أمام طلابي وأشعر بالصغار يقرأون همّي ، حتى هم كانوا مشفقين ، كنتُ كتاباً مفتوحاً لكل رائي ،
بماذا أحدثكِ؟ أأقول إن الصبح والليل كثيراً ما كانا سويّاً.. يمرّان متصلين لم يفصل بينهما نومي !
أأحدثكِ عن حياتي التي لم تعد حياتي ، وقلبي الذي لم يعد قلبي ، وملامحي التي لم تعد ملامحي ،
كل شيءٍ غادر معكِ وبقيَ بجواري النسخة الأخرى الرديئة !
هل تذكرين في قصتي يوم قلتُ : الحياة بعد من نحب كالعودة لبث الأبيض والأسود بعد اعتيادنا البث بالألوان " !
كنت قلتها خيالاً ، كاتبٌ يتقمص دور الفراق .. وحين عشته ، حين افترقنا .. آآه ياحبيبتي ماذا أقول.. كانت بطعم الحقيقة !
كل شيءٍ بعدكِ باهت ، كل صحةٍ سقم وكل ذكرياتي أنتِ .. كانت أيامي تنسل من صفحة تقويمي مهدورة !
هذا الفراق ياسارة نسخةٌ أخرى لعزرائيل ، يقبضُ السعادة والفرح ويترك لك حياةً خاليةً إلا من بكاءٍ و حزن وذكرى مريرة !
طفرت من عيني دمعةٌ وأنا أروي أيام عذابي .. تحدثتُ لها كرجلٍ يروي مآسي سجنه والعيش خلف القضبان
حدثتها كشيخ ٍ يتحدث عن عقوق أبناءه/أيامه !
وحدثتني بأكثر مما لقيتُه ، عن ضربها و حصارها و فضيحتها بين شقيقاتها ، حدثتني وهي تبكي عن تذكري كل صباح ..
" الآن الشمس تشرق ، ياترى أغادر فيصل للخرج أم لم يذهب "
" الليل حلّ ، أتراه نام الآن؟ "
" الهلال يلعب، ياتُرى مع المتفرجين على المقاعد أم حزينٌ مثلي "
كل شيءٍ في أيامها الحزينة يشبه أيامي .. كنا نندمجُ في تفاصيل الغياب كروحين يعيشان ذات الدور !
- فيصل وأهلك ؟ أنت جئت وحيداً لخطبتي ! سعيدةٌ بك وأحبك ، لكني أخشى عليك .. لا أريد أن ....
لا تحدثيني عن أهلي .. أنتِ كل شيءٍ لي ، لم يغنوا عني شيئاً يومَ فقدتُك ! وإن فقدتهم صدقيني ، لن أشعر بذلك وأنتِ معي ..
ومع هذا أؤكد لكِ .. والدي طيب القلب .. شهر ثم شهرين ، وسيقبلكِ كابنته ..
والدي ياسارة بسيطٌ جداً .. غضب البسطاء مثلهم بسيط ، لا يدوم صدقيني .. نحن نغضبُ بسرعة الرضى الذي يعقب غضبنا !
- وأمك ؟!
أمي من الآن أخبركِ لن تعتبرك إلا ابنتها السادسة ، ياسارة لا تشغلي نفسكِ بتفاصيلي دعيني أتولّى أمري ..
من هو رجلكِ الذي تعتمدين عليه ؟!
وبصوتٍ يختالُ فرحاً : " فيصـل "
إذن ، من الآن لا تنشغلي إلا بي .. عوضيني عن كل شيء ، اتركي الهم والعناء لي ، دثريني عن كل ما يصدفُ لي ..
أرجوكِ يكفي ما مضى من دموع ، ليس ذا وقت الدموع ليس الآن وقد حصلت عليك يا سارة !
طال حديثنا وراح يتسامقُ شعراً ، وراحت أحلامنا تشقُ عباب الليل ، وبتنا نختارُ أسماء أطفالنا و طريقة عيشنا وتفاصيل أيامنا القادمة..حتى هزيع الليل الأخير!
على صوتها نمتُ اللية الأسعـد منذ شهور .. وحلمتُ بها ...رأيتها في ذلك الحلم المكرور !
رأيتها تركض خائفةً..لكنها حين رأتني لم تهرب مني ، عندما واجهتني ارتمت في حضني وأخذنا ندور في حقلٍ من الورود والفراشات يرقصن لنا ..
وأفقت من نومي .. لم يكن كابوساً كتلك الليالي.. كان حلماً ناعماً كملمس خديها ، ولم أكن أبكي كتلك الليالي .. كنتُ رغم نعاسي أبتسم !
* * *
غادرتني أوجاعي من حيث أدري ولا أدري ...كل شيءٍ تحسّن وبات أفضل ، ماعدا الشاش الذي يحيطُ برأسي كـ قبة ،
تمر الليالي متوشحةً بصوت سارة ، وأحلامنا التي ننسجها ثم نعلقها على عتبات الفجر، وننام وعلى ملاحنا بسمةُ أطفالٍ أرهقهم اللعب وامتلأوا بالفرح !
وها أنا أتجهُ لبيت والد سارة كما طلب مني ، ذهبتُ إلى البيت الكبير مظفّراً ،
لا أدري ماذا يريدُ مني لكني أعرف أن الأمر بدأ يكون جدياً ورسمياً أكثر ..
دخلتُ البوابة الكبيرة دون خوف .. وسرت مع الأشجار دون خوف ، ورفعتُ عيني للنوافذ القريبة من الحديقـة حيث اتفقنا !
هاهي عينا سارة ترقبني كما أخبرتني أنها ستفعل.. مشيتُ بخيلاء ولمحتها وابتسمتْ !
وصعدتُ الدرج الطويل ودلفتُ باب المجلس لأجد والدها بانتظاري ...
تصافحنا في اقتضاب ، عادت ملامحه الجامدة ، ربما كان مرهقاً من أشغاله الكثيرة ، لم أتبيّن سروره من احتقانه ، كان جامداً كالجدار الذي خلفه ...
وبنبرته المتضخمة :
-حسناً، أين سوف تُسكِن ابنتي؟!
ألقى سؤاله بنبرةٍ لم تعجبني ! شممتُ في نبرته استهزاءً لم يعجبني كأنه كان يضحك من عجزي..
- سآخذ شقةً كبيرة ، مرتبي يفوق السبعة الآف وأستطيع تدبر شقةٍ فاخرة إن أردتْ ..
هل ضحك حين ذكرت له مرتبي أم أني أتوهم ؟! وصوتُ احتكاكٍ حديديٍ بسيط يرتمي في حجري ..
رمى إليّ بميداليةٍ فيها مفتاح ، رماه كما يرمي أي شيءٍ تافه على رجلٍ تافه ، كأنه كان يقول " لا تُكثر الحديث خذ واصمت " !
- ابنتي يافيصل اعتادت مستوىً من المعيشة لن تقدر عليه أنت ، ولن أرضى لها بأقل من ذلك ، هذا مفتاح فلة من مخططٍ امتلكه ..
ماهذه الوقاحة ؟!!... على الفور انبريتُ للأمر :
- عفواً أبو مشاري .. ولكني لا أريد صدقةً منك ، إن سكنتُ هذا البيت فتأكد أني سأدفع لك أجرته ...
وبنفاذ صبرٍ بدا واضحاً :
- هل تعلم أين هذا المنزل ؟ في أرقى مخططات شمال الرياض، قيمته تقارب المليونين .. ثمن تأجيره لن يفيه مرتبك السنوي !
تعمدتُ أن يكون بعيداً جداً لأني ، وبصراحةٍ تامة ، أريدُ أن تكون ابنتي في معزلٍ بعيد عن .. عن عائلتك !
قالها وهو يطوّح يده بإزدراء، كما لو كان يهش ذبابةً عن مائدته !
وكتمتها في قلبي وأنا أتذكر قول أرسطو " التضحية سهلة إذا وجدنا من يستحق " !
- غداً تعال إلي في المكتب ، سيرافقك من يرشدك للبيت ولن تحتاج توثيقاً ، البيت باسم ابنتي وهو هديتي لها على كل حال ..
لا أريد للأمر أن يطول أكثر ، أريده أن يتم بسرعة ، وأرجو أن تتدبر أمر عائلتك ليس لي شأنٌ بعائلتك كل مايهمني في الأمر سعادة ابنتي ..
فقط سأخبرك بأمر وحيـد :انتبه أن تأتي إليّ يوماً غاضبةً أو حزينة !
انتهت مقابلتنا المقتضبة ، قامَ وقمتُ على الفور .. لا أدري أكان يهددني في جملته الأخيرة !؟!
أو كان يريد أن ينفّرني من الأمر برمّته لأنسحب ، ثم يلقي اللوم عليّ أمام ابنته !
أم هذه نبرته ويجب أن أعتاد عليها ؟!
وشعرت بارتياح حين تذكرتُ صرخته في ولده حين جئتهم قبل هذه المرة !
وتذكرتُ خوف تركي واحتقان دمعه وصمته ،لم يقل لوالده حرفاً بعد ذلك .. نعم هو كذلك دائماً فيما يبدو،
يبدو أن شخصيته أقوى مما ظننت !
وخرجتْ ... وصوتُ هاتفي يرن برقم خطيبتي :
- هلا فيصل شرايك بالمفاجأة !
- أي مفاجأة ؟ هل تقصدين البيت ؟!
- هههههه نعم ، أخبرني والدي بالأمس انه هدية زواجي .. تركتُ الأمر سراً لتسمعه من والدي ..أليس أبي رقيقاً يا فيصل ؟!
وأنا أتجه لسيارتي قلت في ذهول :
- بلى رقيق ... رقيقٌ جداً !
أغلقتُ الهاتف سريعاً كأني أخفي سارة ، حين جاء صوتٌ يناديني :
- فيـصـل !
كانت سيارة الرنج البيضاء تحملُ الفتى الشقيّ، شقيق سارة .. بدا وكأنه ينتظر خروجي لفترة !
ترجل تركي من سيارته ، وقف في وجهي منتصباً في ثبات ، ووقفتُ في وجهه،
كنا متواجهين في قلب الشارع الهاديء يعتلينا الصمت وعينانا تتحدث بالكثير ..
كانت ملامحه أهدأ من ذلك اليوم .. يبدو أن ضربي كفل له بعض الراحة والإنتقام ، وكانت ملامحي مذهولة من كل شيء حدث في الداخل ..
- عرفتُ أن كتب كتابكم وزواجكم بعد الغد !
- نعم ، والدك يريد أن ينقضي الأمر بسرعة ..
- حسناً،أريد أن تعرف شيئاً واحداً، هل تشاهد هذا المنزل ؟! - وأشار بسبابته لبيتهم الكبير - :
ليس لك فيه شيء .. وليس لك علاقةٌ بنا من قريبٍ وبعيد ..فقط أنت زوج سارة ،
تأخذها ثم تنصرف من حياتنا ..
- .....................
- لولا الظروف التي تعلمها يافيصل ،نعم ـ لولا الفضيحة ، ما كنا قبلنا بك .. يجب أن تعرف ذلك جيدا ً !
قالها وانصرف قافلاً لبيتهم .. تركني في قلب الطريق واقفاً .. يبدو أن قلبه من السواد بما يكفي ليجعله لا يغفر لي مطلقاً !
حين وصل باب منزلهم إلتفت نحوي مرةً أخرى :
- يجب أن تعلم أني لستُ نادماً على ضربك ، لن أتوانى عن تكرارها لو سنحت الفرصة!
ماالذي يجبرني على الصمت وتلقي الإهانات ؟! لا شيء ..
قبل أن يدخل بيتهم ... صرخت فيه :
- تــركـي :
شكراً لضربك ، أزاح عقبةً كبيرة ، لولاك لما كنتُ الآن أقترب من شقيقتك لهذا الحـد !
لكن قبل أن تكرر الأمر .. يجب أن تفكر ألف مرة ، صدقني أنتَ لا تريد مجرد المحاولة !
فتحت باب سيارتي وانطلقت، تركته واقفاً في ذات الذهول الذي أعيشه .. هل كان يتميز من الغيظ ؟
لا أعرف .. ولا أريد أن أعرف ..
..اللعنة على هذا الصغيـر، آخر ما ينقصني عبثُ الأطفال !
* * *
32
أتمدد على فراشي في غرفتي الصغيرة، في بيتنا الذي ليس كبيت أبي مشاري بالطبع!
أشعل سيجارتي وأتركها تطعن مابين شفتاي وأفكر في كل شيء حدث هذا اليوم .. وما سيحدث !
كنت قد عدتُ من الخرج منهكاً ، نمت ساعتين وخرجتُ لأتفقد البيت الجديد ، اللعنة على فهد منذ يومين وهو لا يُجيب اتصالاتي ولا يريد أن يتصل !
كم تمنيتُ لو كان بجواري ، أشعر أني وحيد وأريد الدعم ..
لن يساعدني والدي ولا أشقائي ولا حتى أنتَ يا فهد ؟!! هذه الوحدة في فرحتي قاسية ، أشبهَ بيتيم في يومٍ ميلاده !
كنت وقفتُ أمام بيتي، بيت سارة! كان صغير المساحة من طابقين لكنه حديثٌ في كل شيء ،
يعتليه القرميد الأحمر ويكسو حوائطه الرخام ويفرشه السيراميك الفاخر ، مشجرٌ في مساحاته الخالية ، حديقته غنّاء ..
يصطف مع بيوتٍ ثمانية تشبهه في تفاصيله ، هذه البيوت التي تُعلق أمامها يافطةٌ تحمل اسم الثريّ أبو مشاري والد حبيبتي !
تأملتُ البيت أحدث نفسي :
غداً كتبُ الكتاب السعيـد يا سارة ، وبعدها سنسكنُ هاهنا ، لنفتض غشاء أيامنا الحقيقية ، كل مامضى كان وهماً كان حلماً ، الحقيقة تبدأ غداً..
المطبخ حديثٌ يطل على الصالون، كل هذا ينفتحُ على المجلس دون جدرانٍ عازلة ،
الموكيت والأثاث أنيق ، لا أدري متى جُلِب هنا ، أظنه ضمن هديّة الوالد لابنته ..
حرف الدرج ينتهي عند ردهةٍ صغيرة ، يتفرع منها جانبين .. غرف النوم و غرف الأطفال القادمين ، وذكرت سعود والعنود أبنائي من سارة وابتسمتْ ..
وتخيّلتُ سمراي صاعدةً معي في فستانها الأبيض ، وأقسمتُ لأحملنّها ولن تسير .. وذكرتُ اختلائي بها دون خوف ..
وشعرتُ أني أحلق رغم كل شيء، وتمنيتُ من الأيام أن تسرع أكثر ، لماذا بات سيرها بطيئاً !
أشعل سيجارتي فوق سريري وأفكر/ كيف تتلقى العائلة أخباري السعيـدة !
من المؤكد أن إعصاراً كبيراً سيمر بالبيت هنا .. حينها سأكون ساهراً مع سمراي على أنغام الحب ..ولن أعبأ بأحدٍ سوى أمي ..
آه يا أمي ، كانت هذا الصباح تقرّب لي كأس الشاي قبل خروجي للدوام المدرسيّ ، شعرَتْ بفطرتها أني سعيدٌ جداً ..
كانت تقفُ فوق رأسي نافثة سور المعوذات وتحميني من كل عين !
كنتُ أريد أن أبعدها عني .. أردتُ أن أقول لا تقتربي مني أكثر لكي لا تُصدمي في رحيلي .. لكني تركتها ..
أظن 25 عاماً من الالتصاق لن تزيدها هذه الدقائق سوءاً !!
ورنين هاتفي مرةً أخرى يغني ، شاهدتُ الرقم واشمأززتُ على الفور ، " هيفاء يتصل بك "!
كانت كاذبةً جداً في كل ماتخبرني به ، هكذا عرفتُ من أحاديث سارة المخالفة لما تجيء به صديقتها .. يا للزاجل سيء الأمانة !
لم أقل لسارة أن صديقتكِ سيئةٌ بما يكفي لتتجنبيها ، لكني عرفت أن هيفاء انقطعت عن زيارتها ..
وأن بقية الأخبار التي تأتيني نقلاً على لسان الصديقة الغادرة كانت محض هراء !
- ألو نعم !
كانت لهجتي جافة ! ماعادت تعنيني ..
- هلا فيصل ، ها وش مسوي !؟
- نايم .. و رجاءً لا تتصلين خلاص ..
- خيير ؟! شفيك !! فيصل لا تكلمني كذا .. انتبه !
هل كانت تهدد؟ يا للوقحة حقاً !
شعرت أنها تريد إتمام عبارتها " انتبه وإلا لن أجلب لك أخبار سارة "!
وأراد شيطاني تلقينها درساً لن تنساه :
- لن أنتبه.. ولن أحترمك ، ولا أريد أن أشاهد رقمك في هاتفي مرةً أخرى أيتها الكاذبة ..
وعلى ذِكر سارة ، أنتِ مدعوةٌ لحفل زواجنا بعد أيام ! " انقلعي "..
.. أغلقتُ السماعة في وجهها كصفعةٍ على خدها القبيح !
إذن اليوم .. يوم كتابي .. ومع كل خطوةٍ أخطوها عبر درج بيتنا نازلاً للفناء حيث والدي .. كان قلبي ينقبض وأنفاسي تتلاحق !
لا بأس من محاولةٍ أخيـرة.. قلبُ والدي عرفته مطولاً .. كبيرٌ بحجم غضبه الذي يتظاهر به !
يجلس ماداً قدميه إلى الأمام متكأً على الحائط ، بلغ به عتابه أنْ لم يسأل عني يوم ضُربت من تركي .. لم يزرني ،
كان يبعث أشقائي يتلمس منهم أخبار صحتي ، كان كيعقوب يبعثُ أشقاء يوسف في المدائن سائلين ،
كان مهتماً وقلقاً عليّ ، فقط يحاولُ أن يظهر بمظهر الرجل العاتب جداً .. لكني أعرفُ من أشقائي أسئلته المتلهفة .
اقتربتُ منه كثيراً ، لم أقتربْ منه منذ خصامنا ، لم نتحدث حتى ..
أمسكتُ رأسه بين يديّ وطبعتُ عليه قبلة .. قبلةٌ هتفَتْ لها عيناه وأبرقت .. كأنما كان ينتظرها مطوّلاً ..
- والدي ، هل تذكر حديثنا قبل شهر عن تلك الفتاة !؟
أومأ لي برأسهِ وكأنه يقول : نعم أذكر ، أذكر إغضابك لي لكن لا يهم الآن طالما جئت لطلب السماح ..
- هل فكرتَ في الأمر جيداً يا أبي ؟! أليس ثمة أمـلٍ أخيـر ؟!
ولم يجبني .. عرفت منه إستحالة الأمر ..
قبلتُ رأسه أخرى وأنا أخبره بحقيقة أمري :
- والدي .. لقد وافقوا !
..تقدمت لهم ووافقوا والأمر بات مقضياً ..أرجوك يا ...
تحوّل رأسي يميناً باتجاه الباب بسرعة ، كانت لطمة والدي قويةً للحد الذي دمعت معها عيني مباشرةً ..
كانت حرارة الدم تلسع خدي .. و عيناهُ استحالتا دائرتين من بياض كعادته كلما فُجِع ..
وأردتُ تقبيل رأس أمي .. وكان يتصاعدُ في جسمه شباب العشرين فجأة ، كان يمسك بي من تلابيبي ويرميني بعيداً عنها بكل قوة ..
وسقطتُ أرضاً .. ويده وسبابته ترتعد غضباً تُشير إلى الباب : براا .. اطلع براااا
ومسحتُ دمعي وخزيي وتركتُ أمي قابضةً صدرها، ربما تعاني اختناقاً اعتادها كلما ضاقت .. وأردتُ الإقتراب منها وصفعني مرة أخرى ..
كأنما كان يحميها من عدو ..
وانسحبت إلى الباب أجر أقدامي عبر الفناء .. ونظرتُ لأمي مرة ً أخرى ووجدتها ترمي وجهها بين يديها وتترك للدموع حديث عتابي ..
وأدركتُ أن الوقت فات لكي أتراجع .. وأدركتُ أني في منتصف البحر وليس ثمة خيار سوى الاستمرار في إبحاري ،
وفتحتُ الباب لأخرج من بيتنا للأبـد :
- فيصل ..
ونظرتُ لوالدي الذي يناديني بصوتٍ أشبه ببكاء، كان يرفعُ يديه عالياً يهاتف السماء :
- الله لا يوفقك دنيا وآخره
الله لا يوفقك دنيا وآخره
وأغلقتُ الباب خلفي .. فات الوقت لكي أتراجـع ، اقبلي جميل اعتذاري يا أمـي !
* * *
لملمتُ حزني وخيبتي في المساء ، ومسحتُ عن وجهي آثار لطمة والدي ، لم أجد مهنئاً لي إلا " مجيد " حلاّقي التركي ..
كان يحلق لي هذا العصر موديل " السكسوكة " التي تحب سارة !
رغم فرحي ، بقيتْ في القلب غصةٌ جاهدتُ في دفعها بعيداً عن أعينهم !
أعينهم هؤلاء المنعّمين الذين اقتحمتُ مجلسهم بأمر الحب ليس إلا !
كان مجلس أبو مشاري يمتليء بأنسبائه وأصدقاءه الذين لا أعرفهم ، غارقاً في البِشت الأسود الذي ابتعته أيام تخرجي ، ما ظننتُ أني سألبسه وحيداً مرةً أخرى!
كلهم في هذا المجلس الأثير لا يشبهونني .. ليس فيهم أبيضُ الوجه واحد .. كلهم من عِلية القوم الذين اقتحمت مجلسهم عرضاً ..
كلهم يشبهون بعضهم وأنا الغريب وحـدي .. حتى الشيخ الذي يردد الخطبة الآن قمحيّ البشرة ..
ووالدُ سارة يردد خلف الشيخ زوجتك ابنتي ..
وتركي صامتٌ كصمتي أو أشـد ، والرجال يتفرسونني مبتسمين .. أتُراهم هازئين الآن ياقلبي !؟
ويسألني الشيخ أتقبل ؟ فأوافق ، راجماً بموافقتي كل أواصر عائلتي وقرباها ،
وأردتُ البكاء على أهلي لكني آثرت الفرح بسارة ..
وأعطوني ورقةً يخبرونني أني بتَ في حرزٍ من أذى الرياض وأهلها ، وأنّ ساره صارت في عصمتي ..
وشعرتُ بسعادتي في وجل ، وهذا البكاء اللعين يكاد يدهمني كلما ذكرتُ اختناق وجه أمي ..
لماذا حين قبضتُ على حلمـي جازيتني بالصفع يا أبي ..
ها أنا على وشك البكاء بين الغرباء يا أبي ..
وأفقتُ على أصوات الرجال الغرباء تدعي لي بالتوفيق ..
وبحثت في الوجوه عن بدر ومحمد وخالد ووالدي فلم أجد إلا أناساً لم أعرفهم ، كانوا يباركون لي ..
واختفى عن مشهدي رجالٌ تربيتُ بينهم صغيراً ونشأتُ كبيراً !
وتمتمتُ بصوتٍ كسير لكل وجهٍ غريبٍ أمامي : الله يبارك فيك !
كانت ورقة الزواج تكاد تتمزق في يميني ، كنت أقبضها بقوة .. لم تكن أي ورقة :
كانت مستقبلي الذي ناضلتُ من أجله ، ووجه والدي المتألم وحزن أمي وانقطاع إخوتي عني ..
.. كانت ورقةً بذلتُ لها ثمناً لم يبذله رجلٌ من قبلي قـط !
* * *
يتقدمني والدها وشقيقها في ممرٍ ضيّق بين أشجارهم الكثيفة ، وأصعدُ معهم عتبات الدرج في صمت ، ويُفتح باب البيت الكبير من الداخل ..
ينطلق الأطفال في وجهي باثّين الورود وألواناً تتصاعد للثريّا المشمسة ، وتصرخُ زغاريد النساء تزفني صاعداً ..
..ليس بين هذه الأصوات السعيدة صوتُ أمي !
الصالة الكبيرة تتضوع أطيب أنواع العطور والبخور ، وأسير حثيثاً مع الرجلين تجاه الغرفة المغلقة ، غرفة ٌ يصلني ضجيجها رغم الأبواب المغلقة ..
ويُفتح الباب على مقدمي ..
نساءٌ لا أعرفهنّ يصفقن لي ويضحكن باشاتٍ في وجهي ، ليس فيهنّ من تحجبت عني ، لسنَ كشقيقاتي ولسنَ حيّياتٍ كأمي !
الأطفال يصطفون عند قدمَيْ سارة فوق الكرسي الأنيق ، وسارة في فستانها الأبيض خجلى ، يغطيها سترٌ شفافٌ رقيق ، تقدمتُ ورفعته ..
تأملتها ، أجمل جميلات الدنيا !
طبعتُ على جبينها قبلةٌ صرخت لها صديقاتها الفاتنات .. وقامت سارة بجواري تتعضّد يدي ، واعتلى صوتُ المعازف خلفنا ..
قاموا ورائنا يرموننا بالورد وقصاصات الورق الملوّنة ..
قبلها والدها وقبلته ، وقبلني والدها وقبلته لأول مرة !
وتعانقَتْ مع شقيقها عناقاً حاراً لا نعانقهُ محارمنا .. هنا كل شيءٍ يختلف عني !
وباركتْ لي أمها .. لم تسأل عن أمي ، لم تسألني واحدةٌ منهن عن شقيقاتي ..
وعانقت الأم فتاتها ولم يعانقني أحدٌ من أهلي !
وسِرنا مع الدرج يدفعنا الغناء تكاد ترفعنا أكف الحاضرين السعداء ..
زغاريد المتبرجات حولي تُخبرني أني كنت أعيش في بيئةٍ مغلقة يجب أن أرميها خلف ظهري للأبد !
كنتُ أشبهَ بكائن قدِم من كوكبٍ غريبٍ جاء للأرض أول مرة !
وقلتُ لسارة " مبروك " ، ونظرت إليّ وأسبلت عيناها أرضاً ولم تجبني حياءً ..
ووصلنا الباب ، واصطف الأطفال مشيّعين ، وبدأتِ الفتيات يلوّحن بيديهن صفاً واحداً ، والنساء بين ضاحكةٍ ومزغردة ...
واقتحمنا طفلٌ صغيرٌ يبكي " خالة سارة بتروحين خلاص؟ " وحملته سارة ، " فيصل هذا بدر ولد اختي رحاب "
وذكرتُ أبناء أشقائي وشقيقاتي وادعيتُ القوة يا قلبي .. و قبلتُ صغيرهم كأني أقبل صغارنا النائمين .. أطفالنا الغيّاب عن مشهد فرحي ..
بكاء الأطفال حول سارة يخبرني أنها محبوبة ، وأني الطفل الوحيـد المحظوظ فيهم !
وتقدمت شقيقاتها يباركن لي واحدةً بعد أخرى ، رحاب فريال منى عهود .. كلهنّ يشبهن سارة ،
كلهنّ لم يتكلّفن عناء حجاب ونقاب ، كلهنّ أنيقاتٍ لحفلٍ جاء سريعاً مباغتاً ..
كيف صِرنَ بهذه الأناقة فجأة .. وذكرتُ شقيقاتي وابتسمتْ .. وأدركتُ أني مغامرٌ مجنون ، دخلتُ عالماً ليس عالمي أبداً
وفتحتُ باب سيارتي الفاخرة التي استأجرتها لهذه الليلة ، وركِبت سارة ، وتحلّق الأطفال والفتيات مودعين ..
وفُتِحت بوابة البيت الكبير ، وخرجتُ بسارة من براثن الأغنياء الذين لا أعرفهم .. الغرباء الذين لم أعتد عليهم ..
كان حفلاً مبسطاً .. لكنهُ عظيمٌ بحجم الجالسة بجواري ..
لم يأتِ معي أحدٌ من أهلي ، تركوني في مشهد فرحي وحيداً ، ليس مهماً ياقلبي لا تحزن ، المهم أنني وأنتَ أتينا !
متجهين لبيتنا ، أو بيت والدها أو بيتها هي ، لا يهم ، المهم أن وجهتنا وحيـدة !
ورفعتُ يدها حين أغلقوا البوابة وانقطع الضجيج عنا ، وقبلتُها .. وانطلقنا ...
عشر دقائق بين بيتنا وبيت أهلها ، لكنّ بين بيتنا وبيت أبي وأمي أربعون دقيقةً كاملة !
- يا لجمالك ياسارة !
وكانت تقول باسمةً : فيصل خلاص !
أتُحرجين مني ونحن المتجهين لعشٍ وحيـد !
هاهو البيتُ السعيد يرقص في أنواره الصفراء مستقبلاً حزب السعداء ...
وفتحنا باب بيتنا .. ورميتُ بِشتي الأسود عالياً ، ورميتُ عبائتها بعيداً ، وحملتها لم آبه بصرختها الخائفة ..
انطلقت أشق بها درجات السلم ، واقتحمتُ غرفتنا الجديدة
وأغلقتُ الباب وقبلتُها لأقول للرياض ها قد انتصرت أخيراً ..
وذُبت في بحرها حتى غرقت .. وانزوت في حضني كـ قطةٍ مطيعة ،
وقضينا ليلةً حلمنا بها طويلاً ، ويوم تحققت ، كانت سعادتها ألذ مما تخيلنا !
وانبرى ليلنا نشرب الحب خمراً .. سكِرنا حباً وثملنا عشقاً .. وأنهكنا الحب وأنهكناه فارتمينا نائمين ..
أفقتُ من نومي بعد إغفاءةٍ طويلة ، ورنوتُ لوجهها المتعب ، كانت يديها تمسك بيدي كأنما تخشى ابتعادي ..
وأدركتُ أني في حقيقة أمـري ولست أحلم ..
ومسحتُ على خصلاتِ شعرها .. وتذكرتُ أهلي وأمي .. وارتميتُ في حضن سارة لأنسى .. ونسيتُ كل شيء !
الجزء الثاني انتهـى ..
يتبع ....