شرح حديث المؤمن
القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من
المؤمن الضعيف وفي كل خير . أحرص على ما ينفعك ، واستعن بالله
ولا تعجز . وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا
، ولكن قل : قدر الله ، ما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان
) . رواه مسلم(60)
.
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن
أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال : (المؤمن القوي خير وأحب إلى
الله من المؤمن الضعيف ) .
المؤمن القوي
: يعني في إيمانه ، وليس المراد القوي في بدنه
؛ لأن قوة البدن قد تكون ضرراً على الإنسان إذا استعمل هذه
القوة في معصية الله ، فقوة البدن ليست محمودة ولا مذمومة في
ذاتها ، إن كان الإنسان استعمل هذه القوة فيما ينفعه في الدنيا
والآخرة صارت محمودة وإن استعان بهذه القوة على معصية الله
صارت مذمومة .
لكن القوة في قوله صلى الله عليه وسلم :
( المؤمن القوي )، تعني
قوة الإيمان ، لأن كلمة القوى تعود إلى الوصف السابق وهو
الإيمان ، كما تقول : الرجل القوي ، أي في رجولته ، كذلك
المؤمن القوي يعني في إيمانه ؛ لأن المؤمن القوي في إيمانه
تحمله قوة إيمانه على أن يقوم بما أوجب الله عليه ، وعلى أن
يزيد من النوافل ما شاء الله ، والضعيف الإيمان يكون إيمانه
ضعيفاً لا يحمله على فعل الواجبات ، وترك المحرمات فيقصر
كثيراً .
وقوله : (خير
) يعني خير من المؤمن الضعيف ، وأحب إلى الله من المؤمن
الضعيف ، ثم قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (
وفي كل خير ) يعني المؤمن
القوي والمؤمن الضعيف كل منهما فيه خير ، وإنما قال : (وفي
كل خير ) لئلا يتوهم أحد من الناس أن المؤمن الضعيف لا خير
فيه ، بل المؤمن الضعيف فيه خير ، فهو خير من الكافر لا شك .
وهذا الأسلوب يسميه البلاغيون الاحتراز ، وهو
أن يتكلم الإنسان كلاماً يوهم معنى لا يقصده ، فيأتي بجملة
تبين أنه يقصد المعنى المعين ، ومثال ذلك في القرآن قوله تبارك
وتعالى : ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ
الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ
الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ
اللَّهُ الْحُسْنَى ) (الحديد:10) ، لما كان قوله : (أُولَئِكَ
أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ
وَقَاتَلُوا) يوهم أن الآخرين ليس لهم حظ من هذا ، قال :
(وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ) .
ومن ذلك قوله تعالى : ( وَدَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ
فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ) (الأنبياء:79) ،
لما كان هذا يوهم أن داود عنده نقص ، قال تعالى : ( وَكُلّاً
آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ) .
ومن ذلك قوله تعالى : ( لا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً
وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) (النساء:95)
، فهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم : (
وفي كل خير ) أي المؤمن
القوي والمؤمن الضعيف ، لكن القوي خير وأحب إلى الله .
ثم قال عليه الصلاة والسلام :
( احرص على ما ينفعك ) هذه
وصية من الرسول عليه الصلاة والسلام لأمته ، وهي وصية جامعة
مانعة ( احرص على ما ينفعك
) يعني أجتهد في تحصيله ومباشرته ، وضد الذي ينفع الذي فيه ضرر
، وما لا ينفع فيه ولا ضرر ، وذلك لأن الأفعال تنقسم إلى ثلاثة
أقسام : قسم ينفع الإنسان ، وقسم يضره ، وقسم لا ينفع ولا يضر
.
فالإنسان العاقل الذي يقبل وصية صلى الله عليه
وسلم هو الذي يحرص على ما ينفعه ، وما أكثر الذين يضيعون
أوقاتهم اليوم في غير فائدة ، بل في مضرة على أنفسهم وعلى
دينهم ، وعلى هذا فيجدر بنا أن نقول لمثل هؤلاء : إنكم لم
تعملوا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إما جهلاً منكم وإما
تهاوناً ، لكن المؤمن العاقل الحازم هو الذي يقبل هذه النصيحة
، ويحرص على ما ينفعه في دينه ودنياه .
وهذا حديث عظيم ينبغي للإنسان أن يجعله نبراساً
له في عمله الديني والدنيوي ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : ( احرص على ما ينفعك
) وهذه الكلمة كلمة جامعة عامة ، (
على ما ينفعك ) أي على كل
شيء ينفعك سواء في الدين أو في الدنيا ، فإذا تعارضت منفعة
الدين ومنفعة الدنيا فقدم منفعة الدين ؛ لأن الدين إذا صلح
صلحت الدنيا ، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين فإنها تفسد .
وفي قوله : ( احرص
على ما ينفعك ) إشارة إلى أنه تعارضت منفعتان إحداهما
أعلى من الأخرى ، فإننا نقدم المنفعة العليا ؛ لأن المنفعة
العليا فيها المنفعة التي دونها وزيادة ، فتدخل في قوله (
احرص على ما ينفعك ) .
فإذا اجتمع صلة أخ وصلة عم كلاهما سواء في
الحاجة ، وأنت لا يمكنك أن تصل الرجلين جميعاً ،فهنا تقدم صلة
الأخ لأنها أفضل وأنفع ، وكذلك أيضاً لو أنك بين مسجدين كلاهما
في البعد سواء لكن أحدهما أكثر جماعة فإننا نقدم الأكثر جماعة
لأنه الأفضل ، فقوله ( على ما
ينفعك ) يشير إلى أنه اجتمعت منفعتان إحداهما أعلى من
الأخرى فإنها تقدم الأعلى .
وبالعكس إذا كان الإنسان لابد أن يرتكب منهياً
عنه من أمرين منهي عنهما وكان أحدهما أشد، فإنه يرتكب الأخف ،
فالمناهي يقدم الأخف منها ، والأوامر يقدم الأعلى منها .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (
واستعن بالله ) : ما أروع
هذه الكلمة بعد قوله ( احرص على
ما ينفعك ) لأن الإنسان إذا كان عاقلاً ذكياً فإنه
يتتبع المنافع ويأخذ بالأنفع ويجتهد ، ويحرص ، وربما تغره
نفسه حتى يعتمد على نفسه وينسى الاستعانة بالله ، وهذا يقع
لكثير من الناس ، حيث يعجب بنفسه ولا يذكر الله عز وجل ويستعين
به ، فإذا رأى من نفسه قوة على الأعمال وحرصاً على النافع
وفعلاً له ، أعجب بنفسه ونسى الاستعانة بالله ، ولهذا قال : (
أحرص على ما ينفعك واستعن بالله
) أي لا تنس الاستعانة بالله ولو على الشيء اليسير ، وفي
الحديث : (ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى يسأله الملح ، وحتى
يسأله شسع نعله إذا انقطع )(61) يعني حتى الشيء
اليسير لا تنس الاستعانة بالله عز وجل ، حتى ولو أردت أن تتوضأ
أو تصلى أو تذهب يميناً أو شمالاً أو تضع شيئاً فاستحضر أنك
مستعين بالله عز وجل ، وأنه لولا عون الله ما حصل لك هذا الشيء
.
ثم قال : ( ولا
تعجز ) يعني استمر في العمل ولا تعجز وتتأخر ، وتقول :
إن المدى طويل والشغل كثير ، فما دمت صممت في أول الأمر أن هذا
هو الأنفع لك واستعنت بالله وشرعت فيه فلا تعجز .
وهذا الحديث في الحقيقة يحتاج إلى مجلدات يتكلم
عليه فيها الإنسان ؛ لأن له من الصور والمسائل ما لا يحصى ،
منها مثلاً طالب العلم الذي يشرع في كتاب يرى أن فيه منفعة
ومصلحة له ، ثم بعد أسبوع أو شهر يمل ، وينتقل إلى كتاب آخر ،
هذا نقول عنه : إنه استعان بالله وحرص على ما ينفعه ولكنه عجز
، كيف عجز ؟ بكونه لم يستمر ، لأن معنى قوله : ( لا تعجز ) أي
لا تترك العمل ؛ بل ما دمت دخلت فيه على أنه نافع فاستمر فيه ،
ولذا تجد هذا الرجل يمضي عليه الوقت ولم يحصل شيئاً ؛ لأنه
أحياناً يقرأ في هذا ، وأحياناً في هذا .
حتى في المسألة الجزئية ؛ تجد بعض طلبة العلم
مثلاً يريد أن يرجع مسألة من المسائل في كتاب ، ثم يتصفح
الكتاب ، يبحث عن هذه المسألة ، فيعرض له أثناء تصفح الكتاب
مسألة أخرى يقف عندها ، ثم مسألة ثانية ، فيقف عندها ، ثم
ثالثة ، فيقف ، ثم يضيع الأصل الذي فتح الكتاب من أجله ، فيضيع
عليه الوقت ، وهذا ما يقع كثيراً في مثل فتاوى شيخ الإسلام ابن
تيمية ـ رحمه الله ـ تجد الإنسان يطالعها ليأخذ مسألة ، ثم تمر
مسألة أخرى تعجبه وهكذا ، وهذا ليس بصحيح ؛ بل الصحيح أن تنظر
الأصل الذي فتحت الكتاب من أجله .
كذلك أيضاً في تراجم الصحابة ، في الإصابة ـ
مثلاً ـ لابن حجر ـ رحمه الله ـ حين يبحث الطالب عن ترجمة
صحابي من الصحابة ، ثم يفتح الكتاب من أجل أن يصل إلى ترجمته ،
فتعرض له ترجمة صحابي آخر ، فيقف عندها ويقرؤها ، ثم يفتح
الكتاب ، يجد صحابياً آخر ، ثم هكذا يضيع عليه الوقت ولا يحصل
الترجمة التي من أجلها فتح الكتاب ، وهذا فيه ضياع للوقت .
ولهذا كان من هدي الرسول ـ عليه الصلاة والسلام
ـ أن يبدأ بالأهم الذي تحرك من أجله ، ولذلك لما دعا عتبان بن
مالك الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال له : أريد أن تأتي لتصلي
في بيتي ؛ لأتخذ من المكان الذي صليت فيه مصلى لي ، فخرج النبي
ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومعه نفر من أصحابه ، فلما وصلوا ،
إلي بيت عتبان واستأذنوا ودخلوا ، وإذا عتبان قد صنع لهم
طعاماً ، ولكن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يبدأ بالطعام
، بل قال : ( أين المكان الذي تريد أن نصلي فيه ؟ )
فأراه إياه ، فصلى ، ثم جلس للطعام(62) ، فهذه دليل
على أن الإنسان يبدأ بالأهم ، وبالذي تحرك من أجله ؛ من أجل
ألا يضيع عمله سدى .
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم (
لا تعجز ) أي لا تكسل
وتتأخر في العمل إذا شرعت فيه ، بل استمر ؛ لأنك إذا تركت ثم
شرعت في عمل آخر ، ثم تركت ثم شرعت ثم تركت ، ما تم لك عمل .
ثم قال ـ عليه الصلاة والسلام : (
فإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني
فعلت لكان كذا وكذا ) ويعني بعد أن تحرص وتبذل الجهد ،
وتستعين بالله ، وتستمر ، ثم يخرج الأمر على خلاف ما تريد ،
فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا لأن هذا أمر فوق إرادتك ، أنت
فعلت الذي تؤمر به ، ولكن الله ـ عز وجل ـ غالب على أمره (
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21)، ونضرب مثالاً لذلك : إذا سافر رجل
يريد العمرة ، ولكنه في أثناء الطريق تعطلت السيارة ، ثم رجع
فقال : لو أني أخذت السيارة والأخرى لكان أحسن ، ولما حصل على
التعطل ، نقول : لا تقل هكذا ؛ لأنك أنت بذلت الجهد ، ولو كان
الله ـ عز وجل ـ أراد أن تبلغ العمرة ليسر لك الأمر ، ولكن
الله لم يرد ذلك .
فالإنسان إذا بذل ما يستطيع مما أمر ببذله ،
وأخلفت الأمور ؛ فحينئذ يفوض الأمر إلى الله ؛ لأنه فعل ما
يقدر عليه ، ولهذا قال : ( إن
أصابك شيء ) يعني بعد بذل الجهد والاستعانة بالله ـ عز
وجل ـ ( فلا تقل لو أني
فعلت لكان كذا كَذا ) .
وجزى الله عنا نبينا خير الجزاء ؛ فقد بين لنا
الحكمة من ذلك ، حيث قال : ( فإن
لو تفتح عمل الشيطان ) أي تفتح عليك الوساوس والأحزان
والندم والهموم ، حتى تقول : لو أني فعلت لكان كذا . فلا تقل
هكذا ، والأمر انتهى ، ولا يمكن أن يتغير عما وقع ، وهذا أمر
مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين
ألف سنة ، وسيكون على هذا الوضع مهما عملت .
ولهذا قال ( ولكن
قل : قدر الله ) أي هذا قدر الله ، أي تقدير الله
وقضاؤه ، وما شاء الله ـ عز وجل ـ فعله ( إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (هود:107) ، لا أحد يمنعه أن يفعل في
ملكه ما يشاء ، ما شاء فعل ـ عز وجل .
ولكن يجب أن نعلم أنه سبحانه وتعالى ـ لا يفعل
شيئاً إلا لحكمة خفيت علينا أو ظهرت لنا ، والدليل على هذا
قوله تعالى : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) (الإنسان:30) ،فبين أن
مشيئته مقرونة بالحكمة والعلم ، وكم من شيء كره الإنسان وقوعه
، فصار في العاقبة خيراً له ، كما قال تعالى : ( وَعَسَى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) (البقرة:216) ،
ولقد جرت حوادث كثيرة تدل على هذه الآية ، من ذلك : قبل عدة
سنوات أقلعت طائرة من الرياض متجهة إلى جدة ، وفيها ركاب
كثيرون ، يزيدون عن ثلاثمائة راكب ، وكان أحد الركاب الذين
سجلوا في هذه الطائرة في قاعة الانتظار ، فغلبته عيناه حتى نام
، وأعلن عن إقلاع الطائرة ، وذهب الركاب وركبوا ، فإذا بالرجل
يستيقظ بعد أن أغلق الباب ، فندم ندامة شديدة ؛ كيف فاتته
الطائرة ؟ ثم إن الله قدر بحكمته أن تحترق الطائرة وركابها .
فسبحان الله ! كيف نجا هذا الرجل ؟ كره أنه فاتته الطائرة ،
ولكن كان ذلك خيراً له .
فأنت إذا بذلت الجهد ، واستعنت بالله ، وصار
الأمر على خلاف ما تريد ، لا تندم ، ولا تقل : لو أني فعلت
لكان كذا ، إذا قلت هذا انفتح عليك من الوساوس والندم والأحزان
ما يكدر عليك الصفو ، فقد انتهى الأمر وراح ، وعليك أن تسلم
الأمر للجبار ـ عز وجل ـ قل : قدر الله وما شاء فعل .
ووالله ، لو أننا سرنا على هدي هذا الحديث
لاسترحنا كثيراً ، لكن تجد الإنسان منا ؛ أولاً : لا يحرص على
ما ينفعه ، بل تمضي أوقاته ليلاً ونهاراً بدون فائدة ، تضع
عليه سدي . ثانياً إذا قدر أنه اجتهد في أمر ينفعه ، ثم فات
الأمر ، ولم يكن على ما توقع ، تجده يندم ، ويقول : ليتني ما
فعلت كذا ، ولو أني فعلت كذا لكان كذا ، وهذا ليس بصحيح ، فأنت
أدّ ما عليك ، ثم بعد هذا فوض الأمر لله ـ عز وجل .
فإذا قال قائل
: كيف احتج بالقدر ؟ كيف أقول : قدر الله وما شاء فعل ؟
والجواب أن نقول
: نعم ؛ هذا احتجاج بالقدر ، ولكن الاحتجاج بالقدر في موضعه لا
بأس به ، ولهذا قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : (
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ) (الأنعام:106،107) ، فبين له أن
شركهم بمشيئته ، والاحتجاج بالقدر على الاستمرار في المعصية
هذا حرام لا يجوز ، لأن الله قال : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا
وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا ) (الأنعام:148) ، لكن
الاحتجاج بالقدر في موضعه هذا لا بأس به ، فإن النبي ـ عليه
الصلاة والسلام ـ دخل ذات ليلة على عليّ بن أبي طالب وفاطمة
بنت محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فوجدهما نائمين ، فقال لهما
: ( ما منعكما أن تقوما ؟ ) يعني تقوما تتهجدان ، فقال علي :
يا رسول الله ، إن أنفسنا بيد الله ؛ لو شاء أن نقوم لقمنا ،
فخرج النبي عليه الصلاة والسلام وهو يضرب على فخذيه ، ويقول :
( وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً )(63)
(الكهف:54) .
هذا جدال لكن احتجاج علي بن أبي طالب في محله ؛
لأن النائم ليس عليه حرج ، فهو لم يترك القيام وهو مستيقظ ،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رفع القلم عن ثلاثة
)(64) ولا يبعد أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ
أراد أن يختبر على بن أبي طالب : ماذا يقول في الجواب ؟ وسواء
كان ذلك أم لم يكن . فاحتجاج علي بالقدر هنا حجة وذلك لأنه أمر
ليس باختياره ؛ هل النائم يستطيع أن يستيقظ إذا لم يوقظه الله
؟... لا إذن هو حجة.
فالاحتجاج بالقدر ممنوع إذا أراد الإنسان أن
يستمر على المعصية ليدفع اللوم عن نفسه ، نقول مثلاً : يا فلان
، صل مع الجماعة ، فيقول : والله لو هداني الله لصليت ، فهذا
ليس بصحيح . يقال لآخر : اقلع عن حلق اللحية ، يقول : لو هداني
الله لأقلعت ، واقلع عن الدخان ، يقول لو هداني الله لأقلعت ،
فهذا ليس بصحيح ؛ لأن هذا يحتج بالقدر ليستمر في المعصية
والمخالفة .
لكن إن وقع الإنسان في خطأ وتاب إلى الله ،
وأناب إلى الله وندم وقال : إن هذا الشيء مقدر على ، ولكن
أستغفر الله وأتوب إليه ؛ نقول هذا صحيح ، إن تاب واحتج
بالقدر فليس هناك مانع .
الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله