الحمد لله محب التائبين، وقابل توبة الغافلين، وماحي ذنوب العاصين، والصلاة والسلام على داعي اللاهين، وهادي الحائرين..
أما بعد..
في ليلة من الليالي التي أنِسْتُ بها أو هكذا سوّلت لي نفسي، والتي أحببت فيها جازماً أن أروِّض نفسي على الطاعة للوصول إلى الغاية العظمى والهدف المنشود وهو رضاالله سبحانه، والاقتداء بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
فعلاً أحبابي....
اشتقت للقاء ربي، وتاقت نفسي للرحيل للجنة، وبدأت أتذكر تلك الحياة والأيام التي عشتها وعاشها غيري من بني آدم..
الحياة التي هي -وأيم الله- فرصة عظيمة للطاعة والتوبة.
ميدان فسيح للعبادة...
زمن صالح للمسارعة في الخيرات!!...
أعمار تجري!!...
شهور تسير !!..
أيام حلوة ومرّة تنقضي!!...
دنيا تمضي كلمح البصر!!...
أضغاث أحلام!!...
نسير إلى الآجـــــال في كل لحظة
وأيامنا تطوى وهُنَّ مراحـــــــل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا
فكيف به والشيب للرأس شاعل؟؟!!
مضت تلك الليلة على أحسن حال ولله الحمد, وزادها جمالاً تذكُّري لقصة عجيبة ممتعة، ذكرها لي ورواها أحد كبار السن من أهل المحافظة التي أعيش بها!!!..........
زرت هذا الرجل الصالح الذي دائماً ما يعطر مجلسه! ويشنّف آذان سامعيه بذكرتجاربه في هذه الحياة وآلامـها التي مرًعليها!!..
هذا الرجل الذي تجاوز عمره السبعين.. قضاها في طاعة الله ورسوله.. وأنهك جسمه بالبحث عن مصدر رزقه وأولاده.. أحسبه والله حسيبه!!!!..
قال لي:
كنت أسافر أطوي الفيافي والقفار..
يمنة مرة ويسرة مرة!!
للشمال والجنوب!!..
للشام مرة ولمكة مرة!!...
حتى تعرفت في مكة المكرمة على أخوين شقيقين، ودرات لي معهما بيع وشراء ومعرفة وصداقة...
وبعد الطفرة التي مرّت على بلادنا، جلست في بلدي التي أعيش فيها....
مرّ على هذا الحال أكثر من عشرين سنة!!! وهو آخر لقاء تم بيني وبين الأخوين في مكة!!!.
وفي إحدى سفرياتي لمكة المكرمة لأداء العمرة.. قلت في نفسي لماذا لا أزور الأخوين في دارهما؟؟... وعقدت العزم خاصة بعد السنين التي تصرمت ولم أزرهما أبداً !!.
ذهبت إليهما في عام 1419هــ وبحثت عنهما ووجدتهما...
الله أكـــــــــــبر!! ما أقسى الأيام!! وما أبغض الفراق!!..
تركتهما قبل نيف وعشرين سنة وهم على حال متوسطة وميسورة...
دخلت على الأخ الأصغــر!! وأدخلني أحد أطفاله في بيته الضيق الذي من علاماته تدل على حال العوز لساكنيه!!!..
وبعد لحظة جاء الأخ الأكبــر الذي من أول وهلة ترى آثار الهداية والإستقامة قد بدت على محياه!! فنور الصلاح يشع من وجهه الباسم...
أخذته بالأحضان، وتلا قت الأدمع مع بعضها تشكي طول الهجر ولوعة الفراق.. كل منّا رحّب بأخيه، وكنت أتحسس من وجهه حزناً مدفوناً!!.
وحشرجة معانــــــــاة!!.. وألحظ في نبرة صوته آهات وزفرات مليئة بالألم!!! .. ربما أكون مخطئاً... الله أعلم!..
أخذت وإياه أتبادل الأحاديث ونتسامر بطيب الكلام وقصص الماضي... جلسنا على هذه الحال حيناً، ولم يعكر طيب اللقاء إلا صوت طفل صغير وهو ابن للأخ الأصغر الذي لم أره إلى الآن!!..
آثر الدخول علينا.. وفي لحظة سريعة دخل هذا الصبي صاحب الأربع سنوات.. وهو يدغدغ مشاعرنا بكلماته وصرخاته البريئـــــة..
قال الطفل لي:
عمي هل تسمح لي أن أقلد صلاة عمي؟؟ بكل براءة وعفوية قلت له: نعم يابني !!!.
قام وأخذ السجادة وفرشها وابتدأ بالفاتحة الركيكة وهو يقلد عمه الأكبر.. ويركع ويسجد ويرفع يديه على شكل القنوت.. سبحان الذي علمه وفهمه!!.
ثم في شكل سريع وبدون مقدمات!!. قال للمرة الثانية: عمي هل تسمح لي أن أقـــلِّد بابا!!!.. وهو يمشي إذا شرب بالكأس الموجود في غرفته!!.
حاول عمه الأكبر أن ينهره ولكن بدون فائدة.. الله اكبـــــــــــر!!
أتدرون أيها الأخــــــــــوة ماذا قلد هذا الطفل البريء؟؟....
قلد أباه وهو يشرب الخمر.. أم الخبائث!!
قلده وهو مضيع لعقله!.
قلده وهو يتأرجح يمنة ويسرة!.
قلده وهو يزبد ويسب ويشتم!! .
الله أكـــــــــــــبر .....
وينشأ ناشئ الفتيان فينا ............على ما كان عوَّده أبوه!!
وفي لحظة انبهارنا بالوضع الذي عشناه والصدمة التي لحقت بي وبعمه... دخل الأخ الأصغر. وقمت لمعانقته والتسليم عليه ولكنه لم يعرفني.. عانقته وصافحته. وجلست عن يمينه. قلت له يا.... هل ما زلت لا تذكرني؟؟ أنا فلان، أبو عبد الله....
سبحان الله...
قلت في نفسي:
تغير عليّ ذلك الوجه الوضئ منذ سنوات..
غيرته السنون!!..
غيرته جلسات الســـــــــــــــوء !!!
غيرته الخمر وأم الخبائث!!..
غيرته ترك الصلاة !! غيرته بعده عن الحرم فمنذ سنوات لم يزره !!
قلت له:
هل رأيت شيئاً ؟؟..
مباشرة قال نعم، وسمعت كل شيء من فم الطفل... وهذا ديدنه عند كل ضيف يحل علينا.. ثم أخرج زفرة مبحوحة... الله يهدينــــــــا!!! ..
الله أكبر...
الله أكبر...
الله أكبر...
قال الأخ الأكبر: الله يهدي الجميـــــــــــع!!
سكتنا جميعاً.. نسيت نفسي..
صمت رهيب... قطعه شهقة طويلة من فم الأخ الأصغـــــــــر وسريعاً إنطرح على رجلي أخيه الكبيـــر وقال بصوت عالي...!!
سامحني يا أخي..
لطخت سمعتك الطيبة عند كل الناس!
أنا تعبت يا أخي من المعاصي!...
مللت من الخمـــرة!...
مللت من نفسي!.
مللت من أولادي!..
مللت من كل شيء، من الحياة، البيت، الأصحاب..
وبدأ أخوه المستقيم يهدِّئه ويرسل على خديه الدموع الرقيقة تتقاطر على وجه أخيه العاصي..
ويقول له: لا عليك!! الله يغفر لك! الله يغفر لك! الله يغفر لك !!
الله أكبر، ملا مح التوبة لهذا التائب بدأت تلوح في الأفق!!..
قال محدثي:
ولاحت لي فرصة عظيمة في التذكير والوعظ ولم أتمالك نفسي مع الدموع الساخنة التي تحدرت على لحيتي وقلت له: