عندما توفي ضابط الاستخبارات الروسية السابق فاسيلي متروكين أخيراً، كان أبرز ما يمكن ان يتذكره الغرب عنه، هو ذلك السجل الضخم من الاعترافات والأسرار التي كشف عنها في كتابه الشهير “سجلات متروكين” التي قدم فيها أهم عمليات الاستخبارات السوفييتية الkgb السرية خلال ما يقرب من 70 عاماً.
الملفات السرية التي كشفها متروكين تتعلق بالفترة ما بين قيام الثورة البلشفية عام 1917 وحتى عشية عهد الرئيس السوفييتي جورباتشوف في اواخر الثمانينات. وتحوي تفاصيل عمليات الkgb السرية في معظم بلدان العالم. وقد تمكن متروكين من الدخول إلى أكثر المناطق سرية في سجلات الاستخبارات الخارجية وهي الملفات التي تكشف الهوية الحقيقية لهيئات النخبة في الkgb من المهاجرين الذين عاشوا تحت هوية مزيفة في الخارج وتخفوا في هيئة مهاجرين أجانب.
عندما وصلت سجلات متروكين السرية إلى الغرب عام 1992 وصفها مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي ال Fbi بأنها أهم وأكثر الملفات الاستخبارية شمولاً واكتمالاً التي وصلتها من قبل من أي مصدر.
ولد متروكين في يوراسوفو في مقاطعة رايزان جنوب موسكو. وكطفل وبالتأكيد فيما بعد كضابط استخبارات للkgb لم يكن أسعد مما كان عليه عندما كان في الريف الروسي يلتقط الخضراوات ويصطاد ويزرع، وخلال حياته ظلت طلباته في الحياة بسيطة، لقد فضل حساء الخضراوات الذي يصنعه من ثمار حديقة منزله عن مأكولات أشهر المطاعم الغربية.
بعدما تخرج في كلية الحقوق خلال فترة الحرب العالمية الثانية، أمضى ثلاث سنوات في الأكاديمية الدبلوماسية العليا في موسكو، ثم جند كعميل للاستخبارات السوفييتية عام 1948. وكانت سنواته الأولى في العمليات الخاصة المتسمة بهوس الشك التي تميز بها عصر ستالين وقد تركزت عملياته الاستخبارية في مطاردة المتآمرين اليهود والتابعين لسياسة تروتسكي والذين كان ستالين في نهاية فترة حكمه قد ركز جهود الاستخبارات ضدهم في عمليات سرية نفذت في معظم بلدان الكتلة السوفييتية.
كانت فترة الانكسار الرسمية للستالينية قد جاءت على يد نيكيتا خروشوف الزعيم السوفييتي في خطابه الذي ألقاه في مؤتمر نهاية دورة الحزب الشيوعي عام ،1965 حيث اعتبرها الجميع مفجعة بالنسبة لجموع الشعب السوفييتي. فما جاء في الخطاب ظل محل جدل في الkgb لفترة طويلة ولكن لم يجرؤ أحد على التساؤل علناً، أين كان خروشوف أثناء ارتكاب جميع الجرائم التي ارتكبت في عصر ستالين؟
ولكن عقب هذا الخطاب، أصبح متروكين صريحاً في التعبير عن آرائه، ولم يخف انتقاده الواضح لبيروقراطية الkgb ووحشية عملياتها السرية، ما أدى في النهاية إلى ترحيله في نهاية عام 1956 من العمليات السرية إلى ارشيف الkgb الذي ظل يعمل فيه حتى نهاية حياته المهنية.
ولكنه ظل يأمل أن النظام السوفييتي قد يصلح نفسه إلى حد ما، ولكن عندما ظهر نظام اشتراكي له ملامح إنسانية في تشيكوسلوفاكيا خلال ربيع عام 1968 تحركت الدبابات السوفييتية نحوها من أجل ان تعيد نظام الستالينية الجديدة ونظام دولة الحزب الواحد هناك، ومنذ تلك اللحظة مثل الكثير من المعارضين سواء بشكل واضح أو غير معلن أدرك متروكين ان النظام الذي وضع هناك كان غير اصلاحي وانه سوف يتم استبداله.
خلال السنوات التالية، كانت آراؤه قد تأثرت جدا بصراع المعارضة الذي كان قادراً على متابعته من خلال كل من تقارير الkgb أو الاذعات الغربية، وكما كتب فيما بعد “لقد كنت منعزلا ولكني أدركت أنني لم أكن وحيدا”.
سرقة الأ رشيف
وعلى الرغم من انه لم يفكر أبداً في اقحام نفسه بشكل صريح في أى من حركات حقوق الإنسان، إلا أن تاريخ الاحداث الجارية وانتاج نظام ال”ساميزدات” أو إنتاج الأدب السري الممنوع في روسيا قد ولد له فكرة انتاج شكل آخر سري لمحاولات المعارضة لتوثيق ظلم النظام السوفييتي. وتدريجياً بدأ المشروع يتشكل في ذهنه من خلال جمع سجله الخاص لعمليات الkgb الخارجية.
وجاءته الفرصة عام 1972 عندما تركت مديرية الاستخبارات الخارجية مكاتبها المكتظة في مراكز قيادة الkgb بالقرب من الميدان الأحمر، وانتقلت إلى مبنى جديد في ياسينوفو على بعد نصف ميل من موسكو، وخلال العقد التالي كانت مهمته نقل أرشيف الاستخبارات الخارجية بكامله من المبنى القديم إلى المبنى الجديد في ياسينوفو.
ومن خلال إشرافه على عملية النقل أصبح متروكين باستطاعته ان يضع ملاحظات على الملفات السرية التي أراد الاطلاع عليها. وفي البداية دوّن ملاحظاته على قصاصات صغيرة من الورق وخبأها في حذائه ولكن بعد شهور، أدرك ان حرس الأمن في المبنى الجديد لا يفتشون سوى الحقائب الخاصة وحقائب حفظ الأوراق دون التفتيش الشخصي وبهذا فقد بدأ في وضع ملاحظاته على أوراق خاصة وكان يضعها في جيوب سترته.
وفي عطلة نهاية كل أسبوع كان يدفن ملاحظاته في كوخ الأسرة الريفي بالقرب من موسكو، وكان مدركاً تماماً ان عملية تهريبه لأسرار هذا الارشيف قد تنهي حياته بمحاكمة سرية ورصاصة في مؤخرة رأسه في قبو سري للإعدام ولكنه وجد رغبة شديدة في مواصلة عمله.
بعد تقاعده عام 1984 وضع خططاً لتهريب ارشيفه الخاص إلى الغرب، ولكنه لم يجد أياً من هذه الخطط القابلة للتطبيق إلى أن كان انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية عام 1991 والذي ترك الفيدرالية الروسية في البداية تواجه قدراً كبيراً من السيطرة على حدودها مع الجمهوريات الحديثة الاستقلال من دول البلقان. وفي مارس/ آذار 1992 بعد محاولة غير ناجحة للاتصال بالcia، تمكن متروكين من اخذ نماذج من ارشيفه إلى السفارة البريطانية في ريجا، مما جعله على اتصال بخدمة الاستخبارات البريطانية السرية الmi6.
عملية سرية
في نهاية هذا العام وفي الذكرى ال75 للثورة البلشفية، تمكنت الmi6 من نقله وأسرته ثم نقل أرشيفه إلى بريطانيا في عملية استثنائية لم يتم الكشف بعد عن تفاصيلها.
وفي نهاية عام 1995 بدا متروكين يضع فصول كتابه المهم الذي نشر عام 1999 والمعروف بعنوان “سجلات متروكين: الkgb في أوروبا والغرب” والذي ترجم فيما بعد إلى لغات عدة، وبعد نشر هذا الكتاب علم العالم بهروب متروكين بأرشيفه السري.
كانت فصول الكتاب التي لاقت رواجاً كبيراً في الغرب هي تلك التي حوت قصصاً انسانية مثل قصة الجاسوسة مليتا نوروود التي عرفت باسم “الجدة الكبرى” في سجلات الkgb باعتبارها أكثر جاسوسة سوفييتية عملت في بريطانيا لفترة طويلة دون ان يتم الكشف أبدا عن هويتها.
وقد قدم متروكين تسجيلاً لعدد من انتهاكات الkgb ضد الغرب ومحاولاته لدفع ودعم جميع اشكال المعارضة داخل الكتلة السوفييتية.
كتاب متروكين جاء في أجزاء عدة، حوى الجزء الأول الذي نشر عام 1999 القصص الانسانية وكشف عن عدد كبير من الجواسيس السوفييت الذين عملوا في دول أوروبا. أما الجزء الثاني والذي يتعامل بشكل أساسي مع عمليات الkgb في أمريكا اللاتينية وآسيا والشرق الاوسط وافريقيا فسوف ينشر العام الحالي.
كان متروكين قد نشر ايضا قاموس الkgb عام 2002 والذي يقدم فيه رؤية دقيقة للتوجه الفكري لعقلية الkgb بالإضافة إلى عقليتها البيروقراطية المتفردة، وقد وضعت دراسته حول عمليات الkgb في أفغانستان على الانترنت من قبل مشروع واشنطن لتاريخ الحرب الباردة وكان الأول من مجموعة أعمال تخص الملفات السرية الخاصة بالkgb والتي كان قد اعدها للنشر قبل وفاته.
كانت الجهود التي قامت بها وسائل الاعلام لتعقب اثر متروكين بعد نشره للجزء الأول من سجلاته غير ناجحة خاصة انه كان شخصاً شديد التكتم، وقد وصل إلى بريطانيا في سن متقدمة وليس لديه خبرة كبيرة في حياة الغرب، ولم يتمكن من التعامل مع الحياة تحت الاضواء. ولهذا فقد عمد إلى التخفي المستمر وسافر إلى مقاطعات عدة في المملكة المتحدة من دون ان يتمكن احد من تعقبه. وبعد وفاة زوجته نينا التي كانت طبيبة روسية عام 1999 قرر ان يلف العالم بجواز سفره البريطاني الجديد، وكان يعود دوما إلى بريطانيا مرة اخرى لاستئناف اعداد الجزء الثاني من أرشيفه للنشر على الرغم من حالته الصحية المتردية وقد ظل يعمل على هذا الجزء حتى وفاته في 23 يناير/ كانون الثاني من هذا العام.
يقظة مضاعفة
ولد فاسيلي نيكيتشي متروكين في وسط روسيا عام ،1922 وبدأ حياته المهنية كضابط استخبارات خارجية عام ،1948 وقد أرسل في أول مهمة استخبارية له عام 1952 حيث كانت مهمته متابعة عمليات ضد المعارضة في معظم دول الكتلة السوفييتية ضد المتآمرين الصهاينة والتابعين لتروتسكي في آخر فترة حكم ستالين.
في يناير/ كانون الثاني عام 1953 اعلنت وكالة الانباء السوفييتية “تاس” أنه خلال السنوات الماضية قامت الحركة الصهيونية في العالم ووكالات الاستخبارات الغربية بالتآمر مع جماعة إرهابية من الأطباء اليهود من اجل القضاء على زعامة الاتحاد السوفييتي، وخلال الشهرين الاخيرين من حكم ستالين كافحت الاستخبارات العسكرية السوفييتية من أجل اظهار يقظتها المضاعفة من خلال ملاحقة هؤلاء الذين شاركوا في المؤامرة وأقيمت حملة ضد الصهاينة، وبعد فترة قصيرة من موت ستالين المفاجئ في مارس/ آذار 1953 أمر متروكين ان يحقق في اتصالات الحركة الصهيونية مع مراسل صحيفة “برافدا” السوفييتية في باريس يوري زوكوف الذي جاء تحت الشك بسبب أصول زوجته اليهودية، ولكن بعد موت ستالين أعلن لافرنتي بيرا ان تلك المؤامرة لم توجد أبدا وأنها كانت مؤامرة مزعومة. في صيف عام ،1953 أعلن زملاء بيرا عن قلقهم من وجود مؤامرة أخرى للقيام بانقلاب عسكري، وخلال زيارته لعاصمة اجنبية في يوليو/ تموز تلقى متروكين برقية سرية من الkgb تحوي تعليمات مشفرة وقد ذهل عندما اكتشف ان بيرا قد اتهم بالقيام بأنشطة معادية للحزب وللدولة. وفيما بعد علم متروكين ان بيرا تم القبض عليه في مقابلة خاصة في اللجنة التنفيذية الدائمة في 26 يونيو/ حزيران بعد مؤامرة نظمها منافسه نيكيتا خروشوف، ومن سجنه كتب بيرا رسائل التماس لزملائه السابقين ملتمسا تعاطفهم من أجل إنقاذ حياته وإيجاد أي عمل له ولو تافهاً.
في 24 ديسمبر/ كانون الأول أعلن ان بيرا تم إعدامه بعد محاكمة من المحكمة العليا، وحيث انه لم يتم الإعلان عن مسؤوليته عن القتل الجماعي في عصر ستالين ولا سجله الخاص من اغتصاب الفتيات الصغيرات وذلك خوفا من ان يجلب تساؤلاً حول انتهاكات بقية رجال الحزب، فقد أعلن أنه مذنب بتهمة القيام بمؤامرة ضد النظام الشيوعي من أجل إحياء الرأسمالية وإعادة حكم البرجوازية بالتعاون مع بريطانيا ووكالات استخبار غربية، ومع هذا فإن بيرا أصبح “يوجودا ويزوف” في الثلاثينات هو ثالث رئيس للشرطة السرية يتم إعدامه لجرائمه التي تتضمن عمله كعميل سري بريطاني.
أول تنازل عن الستالينية كان في الخطاب السري الذي قدمه خروشوف في الجلسة السرية التي عقدها الحزب الشيوعي العشرون للاتحاد السوفييتي في فبراير/ شباط ،1956 وقد قال خروشوف في خطابه ان عبادة ستالين لذاته كانت السبب وراء سلسلة من انحرافات خطيرة عن مبادئ الحزب وديمقراطيته شرعية الثورة، وقد قيل ان الخطاب قد ارسل إلى منظمة الحزب التابعة للkgb في خطاب سري من اللجنة المركزية، والجزء الخاص بمتروكين استلزم يومين من أجل مناقشة محتواه، والذي جاء في جزء منه ان ستالين لم يكن سوى قاطع طريق، ولم يستطع احد أن يعلق على هذه الجملة. ولكن ظل السؤال الذي يجول في خاطر متروكين هو أين كان خروشوف عندما وقعت جميع تلك الجرائم؟
د كتور زيفاجو
بعد هذا الخطاب السري، أصبح متروكين صريحاً في التعبير عن رأيه وعبر عن انتقاداته بشكل واضح للطريقة التي تقوم بها الkgb لعملياتها في الخارج، وفي نهاية عام 1956 تم نقل متروكين من العمليات الخاصة إلى الارشيف وهناك علم ان الارشيف الخاص ببيرا قد تم تدميره بناء على أوامر من خروشوف حتى لا يتم تعقب المادة المثيرة للشبهات التي جمعها عن زملائه السابقين، وقد ذكر ايفان سيروف رئيس الkgb من 1954 إلى 1958 إلى خروشوف ان الملفات حوت الكثير من المادة الاستفزازية والتي تشهر بأعضاء الحزب.
متروكين كان قارئاً نهماً للكتاب الروس الذين سقطوا من ميزان الاستحسان خلال سنوات حكم ستالين، وبدأ تيار نشر كتبهم مرة أخرى في منتصف الخمسينات. في عام 1954 كان اول عمل ادبي رائع في موسكو بعد وفاة ستالين هو نشر القصائد الجديدة لبوريس باسترناك الروائي والشاعر السوفييتي العظيم الذي كان قد بدأ أعماله الأدبية قبل الثورة والتي منع ستالين نشر أعماله منذ عام 1945. وقد نشرت قصائده في مجلة أدبية تحت عنوان “قصائد من رواية دكتور زيفاجو” وقد ألحق بها وصفاً مختصراً للملحمة التي لن تنجز بعد والتي منها هذه القصائد. وعلى أية حال فإن النص الكامل لرواية دكتور زيفاجو والتي تسرد الحياة المتعرجة لبطلها الغامض من آخر فترة في الحكم القيصري إلى السنوات الأولى للنظام السوفييتي، وقد حكم عليها بأنها شديدة المعارضة للنظام، وقد تم رفضها رسميا للنشر عام 1956. أصبح باسترناك أول مؤلف سوفييتي منذ العشرينات يتحايل على تحريم نص روايته في روسيا بأن نشرها في الخارج، وقد نشرت باللغة الايطالية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1957 للمرة الأولى لتصبح أكثر الرويات رواجا لهذا القرن وطبعت فيما بعد في 24 لغة وقد اعتبرها النقاد الغربيون اروع ما كتب في الأدب الروسي منذ رواية تولستوي “الانبعاث” عام 1899 وقد نال عنها باسترناك جائزة نوبل للآداب عام 1958 ولكن الصحافة السوفييتية لقبته بانه مثل يهوذا الأدب الذي غدر بشعبه من أجل ثلاثين قطعة فضة أو جائزة نوبل. لقد شاهد متروكين التنديد الرسمي لرواية باسترناك واعتبره من مظاهر بربرية خروشوف الثقافية، وشعر متروكين بغضب شديد تجاه أساليب القمع للستالينية الجديدة.
خلال عصر خروشوف أدار الkgb عدد من العملاء الذي واصلوا العمل على تدمير اجزاء كبيرة من الملفات السرية للوكالة وقاموا بتزييف عدد من المواد التي تحويها تلك الملفات، وخاصة تلك التي تحوي تفاصيل عمل اللجنة التنفيذية الدائمة في عهد ستالين، وخاصة الأجزاء التي تخص تفاصيل عمل أعضاء من اللجنة المركزية للحزب وضباط استخبارات بارزين وشيوعيين اجانب عاشوا في موسكو خلال عهد ستالين.