أبـيــض أســود
بعد مقتل «يوليوس قيصر» بقليل، طلب صديقه «كاسيوس» بلطافة، بعد أن أدرك ما حدث، أن يوجه كلمة تأبينية قصيرة لجموع المواطنين أو لجمهور من الناس، وداعا لقيصر ووفاء لذكراه، يعبر فيها عن أسفه وألمه لفقده، فتمّ رفض طلبه في البداية، ولكن حين أصر على ذلك، وافق أصدقاء قيصر, (قتلته فيما بعد)، وسمحوا لكاسيوس أن يوجه خطابه على أن لا يطيل في ذلك. فماذا فعل كاسيوس وماذا كانت النتيجة؟ لقد استطاع كاسيوس بدهائه أن يقلب المشهد كاملا، وأن يغير النتائج لصالح قيصر من خلال الكلمات التي وجّهها للناس، وأقنعهم فيها أن قيصر مات مظلوما وأن رجلا مثله ما كان ينبغي أن ينتهي هذه النهاية بعد أن حقق الانتصارات العظيمة لروما، وقد أفنى حياته في خدمة بلده، وأن القتلة يستحقون العقاب.
لقد كان الناس من قبل قد اقتنعوا أن قيصر قد تحول إلى ديكتاتور، وأنه بات ينتمي لنفسه أكثر مما ينتمي لبلده، وأنه أصبح يستغل إنجازاته وانتصاراته في استغلال الناس وفرض السيطرة عليهم وكانت هذه فكرة أصدقائه الذين رأوا ضرورة الإسراع في قتله حفاظا على ديموقراطية روما. فتدرج كاسيوس في إقناع الناس بعكس ذلك، واستدرجهم لتبني وجهة نظره الشريرة دون أن يشعر أحد بلا أخلاقية الفكرة، ودون أن يلحظ أحد أن كاسيوس الذي كان غير محبوب من الرفاق، لم يكن معنيا بقيصر والاقتصاص له، بقدر ما كان معنيا بمن يخلفه، وقد استخدم في استعطاف الناس واستمالة قلوبهم والتأثير فيهم، وسائل عديدة، منها مثلا : التباكي، وإثارة المشاعر واستقطابها، والتلاعب بالألفاظ والكلمات، والتذكير بمحاسن قيصر وتضخيم أفعاله وتهويل ما حدث له،...
وهكذا طاردت الجماهير القتلة الذين كانت تحركهم مبادئ عظيمة وقتلتهم واحدا بعد الآخر، وجعلت الحيرة تتغلغل في نفوسهم حول أخلاقية ما فعلوا, حتى وصل الأمر حد أن يقتل الواحد منهم نفسه ندما.
لقد امتلك كاسيوس مهارة الاتصال التي وجّه الجماهير من خلالها إلى عمل ما يخطط له، وتنفيذ ما في نفسه، والخطورة في الأمر أنه جعل الناس يرون القضية الكبيرة الجلية من منظور واحد وهو(أبيض أسود) ولا لون ثالث بينهما، وهذا بحد ذاته سلوك غير ديموقراطي غير أن أحدا لم يلتفت إلى ذلك.
إلى الآن ما زال مشهد كاسيوس، والرفاق المحبون لقيصر, الذين قتلوه فيما بعد، لأنهم كانواـ كما قال بروتوس ـ يحبون روما أكثر، يتكرر. ولكن بصور أخرى, ومثل هذا المشهد حين يغيب الحذر، ينتهي غالبا بفتنة يدفع ثمنها الجميع بلا استثناء.
ولهذا فإنه في ظل غياب الفكر، والعناصر المؤثرة، والرؤية الواضحة، والتوافق العام، والإخلاص للمبادئ والثوابت، كثيرا ما يعيش الناس حالات استقطاب، وهذا وضع مؤسف، ليس فقط لأنه يحقق مآرب أشخاص، وإنما أيضا لأنه على مستوى العمل العام يتعب الناس، ويشتت القوى التي ينبغي أن توجّه كاملة لتعميق الإصلاح، وللعمل والبناء والإنتاج بكل صوره : المادية منها والفكرية والمعنوية، من أجل حماية الذات من الضياع، وحماية المستقبل، مستقبل جميع الأجيال!.