قصور العنكبوت
رن هاتفها الجوال بنغمة مميزة عرفت انه حبيبها ---ضغطت على زر الاطفاء لقطع الاتصال قبل ان تجيب فاغنية الحب التي كانت شفرة الاتصال ببعضهما جلبت انتباه المتواجدين في البيت.
كان تجمعا اشبه بمجلس عزاء لكن من غير ميت ---معظم افراد عشيرتها متواجدين هنا في زيارة يومية منذ اسبوعين ---اولاد اعمامها الكثيرون واقاربها يتناوبون في المجيء حتى انهم قد قسموا اوقات حضورهم ---فبعضهم يحضر مساءا والبعض الاخر ياتي عند الظهيرة ----لم يتسع البيت الصغير للعدد الهائل من الزوار في ذلك اليوم فخرج والدها بالجمع الكبير الى الحديقة بعد ان حضر بعض الجيران والعديد من الاصدقاء تاركا غرف البيت الصغيرة تختنق بالنساء تضيفهم امها واخواتها الثلاثة ----واهتمت هي بهاتفها الذي اخرست نغمته تاركه اضائته تومض عند ورود اتصال فتظهر على شاشته صورة اخيها الوحيد .
فتحت الخط بعد ان وجدت لها ركنا خاليا من البشر في احدى زوايا المطبخ ---
- لقد يأست وانا اتصل بكِ .
- لم يكن بوسعي ان اجيب فالبيت لا يخلو من الضيوف .
- هل من اخبار عن اخيكِ ؟ الم يعد بعد؟ اريد ان اتي باهلي لخطبتكِ للمرة العاشرة ويجب ان يكون حاضرا وارجو ان لا يعارض هذه المرة ولا يقف في طريق زواجنا يا حبي .
ترقرقت عيناها بالدموع وتهدج صوتها :- وردنا اتصال من خاطفيه وهم يطلبون فدية خيالية لا يسعنا لفظ رقمها فكيف لنا بجمعها.
وحتى لا تنهي الحديث بالبكاء سارع ليقول لها :- ارجو ان تتيسر الامور لما تستطيعون ويعود اخيكِ بسرعة .
اقفل الخط مبتسما وهو يرجو ان لا يعود اخيها راسما بخياله مستقبله مع حبيبته من غير وجود معارض ينهي سنوات عشق ابتدأ به عزة شبابه ----اراح قدميه من على دواسة الفرامل للسيارة الفارهة التي يقودها ---طالت سيقانه وهو يمطها مع جسمه الرشيق واضعا ذراعيه خلف رقبته متثائبا كقطة كسولة ----رجع الى حجمه الطبيعي وهو ينش باطراف اصابعه ذرة تراب مجهرية من على قميصه الجديد ---وتذكر تلك الايام الجامعية عندما كان لا يملك الا قميصا واحدا يغسل في اخر النهار ويثقل قماشه من عرق استنزف من جسده المتعب من السير مع حبيبته في شوارع الوزيرية في ساعة اظافية بعد الدوام الرسمي ---اما هي فتتحجج بزحمة الطرقات او تاخر الباص.
ما زالت ممسكة بهاتفها الجوال تضغط على ازراره بعشوائية كي تضيء الشاشة وتظهر صورة اخيها الذي اشتاقت اليه كثيرا ----.
علت اصوات الرجال في الخارج ما بين صراخ وبكاء انتقل الى النسوة داخل البيت بعد مكالمة هاتفية من الخاطفين تخبرهم باستلام جثة ولدهم من الطب العدلي ---مما جعل والدتها تهرع الى دولاب ولدها ---تدفن راسها في كومة الملابس والنسوة يمسكن بها وهي تبكي بهستيرية الام المفجوعة----حشرت جسدها داخل الدولاب الصغير ذو البابين ممسكة بملابسه وكانها تتشبث به :- لا ترحل يا فرقد ---لا ترحل ---لا تتركني .
وبصرخة انطلقت من داخل الدولاب شقت خشبه السميك وصدعت قلوب الحاضرين :- لاااااااااا تمت يااااا فر----قد.
لم تكن تتصور ان الدم لزج لهذه الدرجة ويصعب غسله بعد ان يجف بقمصان والدها واولاد عمها في القمامة بعد ان صبغت بالدماء وهم يفتشون عن جثة اخيها من بين اربعمئة جثة داخل ثلاجات مستشفى الطب العدلي ---وعندما وجدوه بقوا ساعات طويلة يقلبون جسده النازف بحثا عن علامة تؤكد هويته اختفت بين الاف الطعنات بكل ما يمكن ان يصنعه الانسان من الات قتل ----وبعد عثورهم على الوحمة التي اخبرتهم بها امها ابتدأت ايام العزاء ----نصبت الخيام في الشارع قبل ان يستقر نعش اخيها في باحة البيت ---جاء محمولا على امواج من البشر الذين تناوبوا على حمله فوق اكتافهم ما بين معز وطالب اجر وكان كتف حبيبها واحدا من تلك الاكتاف .
كسرت اخته الصغيرة فوق نعشه زجاجة عطره المفضلة بعد ان اخبرهم والده ان جسمه متفسخ في ثلاجات المستشفى التي دائما ما تنقطع عنها الكهرباء ولساعات طويلة .
رمى حبيبها بجسده على النعش وهو يبكي بصراخ :- اااه يا فرقد ----ااااااه يا اخي .
رفعوه اولاد عمها بصعوبة وهم يتسائلون بتعجب عمن يكون ---حينما اصيبت امه بالهستيريا رفع النعش ثانية على الاكتاف ليغرس كفسيلة نخل خالدة في موطنه الجديد.
لم تحل الاربعين بعد وبيتهم ما زال مزارا للمعزين ---اصدقائه ---اقاربهم---غرباء ينتمون لاحزاب مختلفة ---وجنود ميليشيا قطعوا على انفسهم عهدا للاخذ بالثأر ---.
جاءوا في احدى المساءات ---استقبلهم والدها منفردين بعد ان طلبوا منه ذلك---كانوا يحملون السلاح الخفيف الذي اخفي تحت ثيابهم مع شارات صنعوها لانفسهم تعرف عن انتمائهم ----اثر خروجهم كان والدها شارد الذهن تماما ولم يتكلم حتى علت اصوات بناته وهن يتوسلن اليه ان يقول شيئا ----وبعد ان بدأت زوجته بالبكاء والنحيب قال اخيرا ونظراته تمتزج بين البشارة والحزن وهو يتفحص وجوه بناته :-
- احتاج لواحدة منكن للاخذ بثأر ولدي .
هجم الصمت على الجميع بما فيهم امها التي ابتلعت الصوت الاخير من وصلة نحيبها ---امسك بوجوه بناته الواحدة بعد الاخرى ابتداءا من الصغيرة ذات الاثني عشر عاما وانتهاءا بها قائلا وكأنه يقبض على كنز ثمين :
- انتِ ----انتِ شابة في الخامسة والعشرين من عمرك مما يؤهلكِ لتلك المهمة .
- ماذا تريدني ان افعل يا والدي --هل تريدني ان اقاتل مثل الرجال؟
- بل افضل من الرجال --- طلبت مني المليشيا الاذن في تجنيد اجمل بناتي لاستدراج احد اولئك القتلة للقبض عليه .
-لم افعل شيئا يا والدي لتزجني بتلك التهلكة .
- واخوكِ لم يفعل شيئا سوى انه يعتقد بعقيدة .
لم تكن الا ايام قليلة حتى وضع رقم جوال احد القتلة المشتبه به بين يديها ----كان رجلين من الميليشيا قد حضرا وبوجود والدها اعطوها بعض المعلومات الضئيلة التي يعرفونها عنه طالبين منها ان تغير مظهرها واستبدال ثوب الحزن بثياب براقة في ساعة المهمة فقط .
رن هاتفها الجوال برقم غريب عن قائمة هاتفها ---فنهضت تاركة الضيوف الى ابعد زاوية في فناء البيت الخلفي :- الوووو---الوووو.
- نعم ---من المتكلم؟
- انا يا حبيبتي ---اشتقت اليكِ .
- هل اشتقت الي حقا؟؟ لماذا اذن لم ترد على اتصالاتي منذ اسبوعين --ولماذا تتصل من رقم جديد؟؟
- كنت مشغولا جدا --- لقد ابتعت منزلا جديدا ولم اعد اسكن بالايجار --كما ان وظيفتي الجديدة تدر علي بالمال الوفير ---لا اظن ان هناك عائق يقف في طريق زواجنا ---سوف اتي باهلي لخطبتكِ .
- تعلم بان لا احد يرفضك --سوى اخي الذي كان يعارض عقيدتك .
- الم يذهب اخوكِ الى الحجيـــ --- اسف اسف حبيبتي انا متوتر قليلا سوف اتصل بكِ لاحقا .
ارادت معاودة الاتصال به ثانيا لتساله عن سر الشراء المفاجيء الذي هبط عليه مؤخرا ---منزل جديد وسيارة فارهه وشرائح موبايل متعددة ---اي وظيفة تلك التي فاز بها وهو جليس البيت منذ عدة سنوات بانتظار وظيفة حكومية تحاكي شهادته المتواضعة؟؟؟
لكن غاضها تطاوله على اخيها الفقيد فضغطت على قطع الاتصال قبل ان يجيب قائلة لنفسها :- ان كان يحبني فسوف يتصل ليعتذر --
مر بعض الوقت ولم يردها اي اتصال منه ---حاولت التماس الاعذار له مقنعة نفسها ان هذا وقت صلاة العشاء ---لابد انه مشغول بالصلاة فهو لا يفوت فرضا ابدا---.
كان هو قد وصل الى شلة اصدقائه الجدد في قضاء سهرة يومية بعد عناء العمل ---ينتظرونه كل ليلة ليكون له الشرف بفتح زجاجة الوسكي الفاخر التي تذهب بعقولهم ولوي السنتهم بالهذيان.
حانت ساعة الثأر فجلست امام والدها الذي يراقبها وهي تتصل بالقاتل ---سالت دموعه وهي تتكلم برقة الصبايا محاولة استلطاف القاتل الذي بدا وكانه لم يستيقظ من نومه بعد ---فقد كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ----
سألها من تكون وهو يتثائب ---فهمست باذنه :- انا معجبة بك .
- يا حضرة المعجبة الا يمكن ان تتصلي بي نهارا ؟
ضحكت وكانها طفلة بريئة :- لا استطيع الكلام الا في الليل بعد ان ينام اهلي.
وقبل ان يتكلم صاحت بهدوء :- اذهب اذهب الان --فقد استيقظ اهلي للتو .
كان والدها مطأطيء الرأس يستمع لذلك الحوار التمثيلي ---وما ان اقفل الخط رفع راسه قائلا لها :-
- يقول رجال الميليشيا لا تتصلي بعد الان --فقط ارسلي له الرسائل ليحتار في شخصكِ ويحاول الوصول اليكِ---اما هذه الشريحة فلا تستخدميها الا في الاتصال به فقط.
يمضي شهر بعد شهر ---حينما قرأت عداد الرسائل كان ما يقارب الثلاثمئة رسالة ---ابتدأ اولها بالتعارف باسم وهمي وبمحل سكن كاذب ---ابتدعت لنفسها هوية لا تعنيها ---واخبرته انها الوحيدة لاهلها من بين ستة اخوة وابوان متوفيان الى ان وصلت الى اخر رسالة نصية قراتها وهي تفتخر بما انجزته ( احبك واتمنى لقاءك --لا اريد ان تبقى خيال وصوت --دعنا نتقابل --).
فجاء الرد سريعا ( لو انكِ تجيبين على اتصالاتي لكان الامر اسهل --لكن بما ان العلاقة ابتدأت بالغموض فلا ضير من المفاجأة ---انتظريني عند المدخل المؤدي للشارع الرئيسي للمدينة --وصفي لي ملابسكِ وانا سوف اتي اليكِ ).
زرع ذلك المكان برجال الميليشيا وكان والدها من بينهم ---تخفوا داخل سياراتهم الواقفة بعيدا --.
وقفت هي على جادة الشارع بملابس انيقة وجذابة اعطت اوصافها له في رسالتها الاخيرة---.
كانت تلك اللحظات ترغب بالاتصال بحبيبها الذي ينتظر الرد الاخير منها للمجيء لخطبتها بعد ان اخبرها بانه سوف يصطحبها الى سوريا للاستقرار هناك بعد زواجهم ---
طال الانتظار لنصف ساعة وحينما ارادت الرجوع رن الهاتف ففتحته بسرعة :- مرحبا يا حبيبي .
نظرت الى عيون رجال الميليشيا التي تراقبها بشغف واردفت قائلة له:-
- لا استطيع الكلام الان --سوف اتصل بك حال رجوعي الى البيت ---( فانتبهت)---مهلا ما ادراك بهذا الرقم؟.
- ماذا جرى لكِ يا مجهولة الرسائل --انا اقف بجواركِ في تلك السيارة البيضاء؟.
بقي الخط مفتوحا بينهما ---مشت بضع خطوات حتى وصلت الى السيارة الفارهه ---فتحت بابها بذهوول :- ماذا تفعل هنا؟؟؟.
فتح فاهه وما زال الهاتف فوق اذنه :- لماذا انتِ هنا ---انا انتظر شخصا اخر؟؟؟.
بقيت عيناهما ببعضهما والخط مفتوح في هاتفيهما --فلا تفسير لديهما لما يحدث ---قطع ذهولهما رجال الميليشيا الملثمين ---سحبوها من ذراعها وصولا الى والدها في خطى راكضة وهي ملتفتة نحو حبيبها الذي كبلت يداه الى الخلف ووضع كيس اسود في راسه ---ووضعوه في صندوق احدى سياراتهم منطلقين بسرعة فائقة .
وقفت في وسط الشارع والمكان يدور بها ---كان رجال الميليشيا قد وصلوا به الى مقرهم السري ---اجلسوه راكعا على ركبتيه ورفعوا الكيس من فوق راسه وما زالوا ملثمين ---وقف والدها واولاد عمها متفاجئين :-
- اليس هذا هو صديق فرقد يا عم ؟؟؟
اجاب والدها وشفتاه ترتجف :- بل هذا من جاء لخطبة ابنتي .
حينها رفع راسه وهو يكلم والدها والجميع مصغون :- لقد احببتها بشدة منذ سنوات الجامعه .
كانت هي في تلك الاثناء تسير في الشوارع بخطى حائرة وتائهة ---تمشي من غير هدف ---وهو يسرد لهم قصة حبه لها مكبل اليدين الى الخلف :-
- لم ارد الا الزواج منها لكني قوبلت بالرفض لاني فقير جدا واهنت لاني من عقيدة اخرى .
توغلت هي بخطاها داخل شوارع تلك المدينة والمارة يتلفتون نحو تلك الغريبة التي دخلت قلعتهم باكية ---.
اما هو اكمل كلامه :- لقد وقف فرقد في طريق سعادتي وعيرني بالفقر --.
جهز رجال الميليشيا الاسلحة ووزعوها على اولاد عمها واعطى كبيرهم سلاحا لوالدها وهو يشد على يده قائلا:- الشرف لكم في اخذ ثأركم --.
نظر والدها الى قاتل ابنه وهو ممسك بمسدسه :- لم يبق مكان في جسد ولدي الا وبه ثقب ---لم نستطع ان نغسله لان لحمه مهتريء .
اطلق الرصاصة الاولى في صدر القاتل ---نظر القاتل الى صدره المثقوب والدماء تنزف منه :-
- فعلت ذلك من اجلها ---انا الان ثري ---ولا اهتم للعقائد .
بعد الرصاصة الثانية التي نفذت من كتفه :- لدي بيت كبير --بدل ملحق الايجار .
كانت هي قد وصلت الى مشارف مدينتها ---وهو يسقط على الارض ----
- لدي سيارة فارهه وملابس انيقة ---
لاحت لها القبة الذهبية هناك وضرب بريقها عينيها الغارقة بالدموع ---وضعت خدها على الفضة الباردة ---ووضع راسه على الارض المليئة بالدماء الساخنة وهي تسيل من فمه بعد سيل الرصاص الذي تلقاه ---وقبل الرصاصة الاخيرة التي فجرت راسه نطق باخر نفس بقي في رئتيه اللتين اصبحتا كالمنخل :-
- سوف اصطحبها الى سورية ---لقضاء شهر العسل ---في سفر طويل ----طوووويل .
اتمنى تعجبكم
تحياتي للجميع
منقول من مرارة واقعنا الاليم
رن هاتفها الجوال بنغمة مميزة عرفت انه حبيبها ---ضغطت على زر الاطفاء لقطع الاتصال قبل ان تجيب فاغنية الحب التي كانت شفرة الاتصال ببعضهما جلبت انتباه المتواجدين في البيت.
كان تجمعا اشبه بمجلس عزاء لكن من غير ميت ---معظم افراد عشيرتها متواجدين هنا في زيارة يومية منذ اسبوعين ---اولاد اعمامها الكثيرون واقاربها يتناوبون في المجيء حتى انهم قد قسموا اوقات حضورهم ---فبعضهم يحضر مساءا والبعض الاخر ياتي عند الظهيرة ----لم يتسع البيت الصغير للعدد الهائل من الزوار في ذلك اليوم فخرج والدها بالجمع الكبير الى الحديقة بعد ان حضر بعض الجيران والعديد من الاصدقاء تاركا غرف البيت الصغيرة تختنق بالنساء تضيفهم امها واخواتها الثلاثة ----واهتمت هي بهاتفها الذي اخرست نغمته تاركه اضائته تومض عند ورود اتصال فتظهر على شاشته صورة اخيها الوحيد .
فتحت الخط بعد ان وجدت لها ركنا خاليا من البشر في احدى زوايا المطبخ ---
- لقد يأست وانا اتصل بكِ .
- لم يكن بوسعي ان اجيب فالبيت لا يخلو من الضيوف .
- هل من اخبار عن اخيكِ ؟ الم يعد بعد؟ اريد ان اتي باهلي لخطبتكِ للمرة العاشرة ويجب ان يكون حاضرا وارجو ان لا يعارض هذه المرة ولا يقف في طريق زواجنا يا حبي .
ترقرقت عيناها بالدموع وتهدج صوتها :- وردنا اتصال من خاطفيه وهم يطلبون فدية خيالية لا يسعنا لفظ رقمها فكيف لنا بجمعها.
وحتى لا تنهي الحديث بالبكاء سارع ليقول لها :- ارجو ان تتيسر الامور لما تستطيعون ويعود اخيكِ بسرعة .
اقفل الخط مبتسما وهو يرجو ان لا يعود اخيها راسما بخياله مستقبله مع حبيبته من غير وجود معارض ينهي سنوات عشق ابتدأ به عزة شبابه ----اراح قدميه من على دواسة الفرامل للسيارة الفارهة التي يقودها ---طالت سيقانه وهو يمطها مع جسمه الرشيق واضعا ذراعيه خلف رقبته متثائبا كقطة كسولة ----رجع الى حجمه الطبيعي وهو ينش باطراف اصابعه ذرة تراب مجهرية من على قميصه الجديد ---وتذكر تلك الايام الجامعية عندما كان لا يملك الا قميصا واحدا يغسل في اخر النهار ويثقل قماشه من عرق استنزف من جسده المتعب من السير مع حبيبته في شوارع الوزيرية في ساعة اظافية بعد الدوام الرسمي ---اما هي فتتحجج بزحمة الطرقات او تاخر الباص.
ما زالت ممسكة بهاتفها الجوال تضغط على ازراره بعشوائية كي تضيء الشاشة وتظهر صورة اخيها الذي اشتاقت اليه كثيرا ----.
علت اصوات الرجال في الخارج ما بين صراخ وبكاء انتقل الى النسوة داخل البيت بعد مكالمة هاتفية من الخاطفين تخبرهم باستلام جثة ولدهم من الطب العدلي ---مما جعل والدتها تهرع الى دولاب ولدها ---تدفن راسها في كومة الملابس والنسوة يمسكن بها وهي تبكي بهستيرية الام المفجوعة----حشرت جسدها داخل الدولاب الصغير ذو البابين ممسكة بملابسه وكانها تتشبث به :- لا ترحل يا فرقد ---لا ترحل ---لا تتركني .
وبصرخة انطلقت من داخل الدولاب شقت خشبه السميك وصدعت قلوب الحاضرين :- لاااااااااا تمت يااااا فر----قد.
لم تكن تتصور ان الدم لزج لهذه الدرجة ويصعب غسله بعد ان يجف بقمصان والدها واولاد عمها في القمامة بعد ان صبغت بالدماء وهم يفتشون عن جثة اخيها من بين اربعمئة جثة داخل ثلاجات مستشفى الطب العدلي ---وعندما وجدوه بقوا ساعات طويلة يقلبون جسده النازف بحثا عن علامة تؤكد هويته اختفت بين الاف الطعنات بكل ما يمكن ان يصنعه الانسان من الات قتل ----وبعد عثورهم على الوحمة التي اخبرتهم بها امها ابتدأت ايام العزاء ----نصبت الخيام في الشارع قبل ان يستقر نعش اخيها في باحة البيت ---جاء محمولا على امواج من البشر الذين تناوبوا على حمله فوق اكتافهم ما بين معز وطالب اجر وكان كتف حبيبها واحدا من تلك الاكتاف .
كسرت اخته الصغيرة فوق نعشه زجاجة عطره المفضلة بعد ان اخبرهم والده ان جسمه متفسخ في ثلاجات المستشفى التي دائما ما تنقطع عنها الكهرباء ولساعات طويلة .
رمى حبيبها بجسده على النعش وهو يبكي بصراخ :- اااه يا فرقد ----ااااااه يا اخي .
رفعوه اولاد عمها بصعوبة وهم يتسائلون بتعجب عمن يكون ---حينما اصيبت امه بالهستيريا رفع النعش ثانية على الاكتاف ليغرس كفسيلة نخل خالدة في موطنه الجديد.
لم تحل الاربعين بعد وبيتهم ما زال مزارا للمعزين ---اصدقائه ---اقاربهم---غرباء ينتمون لاحزاب مختلفة ---وجنود ميليشيا قطعوا على انفسهم عهدا للاخذ بالثأر ---.
جاءوا في احدى المساءات ---استقبلهم والدها منفردين بعد ان طلبوا منه ذلك---كانوا يحملون السلاح الخفيف الذي اخفي تحت ثيابهم مع شارات صنعوها لانفسهم تعرف عن انتمائهم ----اثر خروجهم كان والدها شارد الذهن تماما ولم يتكلم حتى علت اصوات بناته وهن يتوسلن اليه ان يقول شيئا ----وبعد ان بدأت زوجته بالبكاء والنحيب قال اخيرا ونظراته تمتزج بين البشارة والحزن وهو يتفحص وجوه بناته :-
- احتاج لواحدة منكن للاخذ بثأر ولدي .
هجم الصمت على الجميع بما فيهم امها التي ابتلعت الصوت الاخير من وصلة نحيبها ---امسك بوجوه بناته الواحدة بعد الاخرى ابتداءا من الصغيرة ذات الاثني عشر عاما وانتهاءا بها قائلا وكأنه يقبض على كنز ثمين :
- انتِ ----انتِ شابة في الخامسة والعشرين من عمرك مما يؤهلكِ لتلك المهمة .
- ماذا تريدني ان افعل يا والدي --هل تريدني ان اقاتل مثل الرجال؟
- بل افضل من الرجال --- طلبت مني المليشيا الاذن في تجنيد اجمل بناتي لاستدراج احد اولئك القتلة للقبض عليه .
-لم افعل شيئا يا والدي لتزجني بتلك التهلكة .
- واخوكِ لم يفعل شيئا سوى انه يعتقد بعقيدة .
لم تكن الا ايام قليلة حتى وضع رقم جوال احد القتلة المشتبه به بين يديها ----كان رجلين من الميليشيا قد حضرا وبوجود والدها اعطوها بعض المعلومات الضئيلة التي يعرفونها عنه طالبين منها ان تغير مظهرها واستبدال ثوب الحزن بثياب براقة في ساعة المهمة فقط .
رن هاتفها الجوال برقم غريب عن قائمة هاتفها ---فنهضت تاركة الضيوف الى ابعد زاوية في فناء البيت الخلفي :- الوووو---الوووو.
- نعم ---من المتكلم؟
- انا يا حبيبتي ---اشتقت اليكِ .
- هل اشتقت الي حقا؟؟ لماذا اذن لم ترد على اتصالاتي منذ اسبوعين --ولماذا تتصل من رقم جديد؟؟
- كنت مشغولا جدا --- لقد ابتعت منزلا جديدا ولم اعد اسكن بالايجار --كما ان وظيفتي الجديدة تدر علي بالمال الوفير ---لا اظن ان هناك عائق يقف في طريق زواجنا ---سوف اتي باهلي لخطبتكِ .
- تعلم بان لا احد يرفضك --سوى اخي الذي كان يعارض عقيدتك .
- الم يذهب اخوكِ الى الحجيـــ --- اسف اسف حبيبتي انا متوتر قليلا سوف اتصل بكِ لاحقا .
ارادت معاودة الاتصال به ثانيا لتساله عن سر الشراء المفاجيء الذي هبط عليه مؤخرا ---منزل جديد وسيارة فارهه وشرائح موبايل متعددة ---اي وظيفة تلك التي فاز بها وهو جليس البيت منذ عدة سنوات بانتظار وظيفة حكومية تحاكي شهادته المتواضعة؟؟؟
لكن غاضها تطاوله على اخيها الفقيد فضغطت على قطع الاتصال قبل ان يجيب قائلة لنفسها :- ان كان يحبني فسوف يتصل ليعتذر --
مر بعض الوقت ولم يردها اي اتصال منه ---حاولت التماس الاعذار له مقنعة نفسها ان هذا وقت صلاة العشاء ---لابد انه مشغول بالصلاة فهو لا يفوت فرضا ابدا---.
كان هو قد وصل الى شلة اصدقائه الجدد في قضاء سهرة يومية بعد عناء العمل ---ينتظرونه كل ليلة ليكون له الشرف بفتح زجاجة الوسكي الفاخر التي تذهب بعقولهم ولوي السنتهم بالهذيان.
حانت ساعة الثأر فجلست امام والدها الذي يراقبها وهي تتصل بالقاتل ---سالت دموعه وهي تتكلم برقة الصبايا محاولة استلطاف القاتل الذي بدا وكانه لم يستيقظ من نومه بعد ---فقد كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ----
سألها من تكون وهو يتثائب ---فهمست باذنه :- انا معجبة بك .
- يا حضرة المعجبة الا يمكن ان تتصلي بي نهارا ؟
ضحكت وكانها طفلة بريئة :- لا استطيع الكلام الا في الليل بعد ان ينام اهلي.
وقبل ان يتكلم صاحت بهدوء :- اذهب اذهب الان --فقد استيقظ اهلي للتو .
كان والدها مطأطيء الرأس يستمع لذلك الحوار التمثيلي ---وما ان اقفل الخط رفع راسه قائلا لها :-
- يقول رجال الميليشيا لا تتصلي بعد الان --فقط ارسلي له الرسائل ليحتار في شخصكِ ويحاول الوصول اليكِ---اما هذه الشريحة فلا تستخدميها الا في الاتصال به فقط.
يمضي شهر بعد شهر ---حينما قرأت عداد الرسائل كان ما يقارب الثلاثمئة رسالة ---ابتدأ اولها بالتعارف باسم وهمي وبمحل سكن كاذب ---ابتدعت لنفسها هوية لا تعنيها ---واخبرته انها الوحيدة لاهلها من بين ستة اخوة وابوان متوفيان الى ان وصلت الى اخر رسالة نصية قراتها وهي تفتخر بما انجزته ( احبك واتمنى لقاءك --لا اريد ان تبقى خيال وصوت --دعنا نتقابل --).
فجاء الرد سريعا ( لو انكِ تجيبين على اتصالاتي لكان الامر اسهل --لكن بما ان العلاقة ابتدأت بالغموض فلا ضير من المفاجأة ---انتظريني عند المدخل المؤدي للشارع الرئيسي للمدينة --وصفي لي ملابسكِ وانا سوف اتي اليكِ ).
زرع ذلك المكان برجال الميليشيا وكان والدها من بينهم ---تخفوا داخل سياراتهم الواقفة بعيدا --.
وقفت هي على جادة الشارع بملابس انيقة وجذابة اعطت اوصافها له في رسالتها الاخيرة---.
كانت تلك اللحظات ترغب بالاتصال بحبيبها الذي ينتظر الرد الاخير منها للمجيء لخطبتها بعد ان اخبرها بانه سوف يصطحبها الى سوريا للاستقرار هناك بعد زواجهم ---
طال الانتظار لنصف ساعة وحينما ارادت الرجوع رن الهاتف ففتحته بسرعة :- مرحبا يا حبيبي .
نظرت الى عيون رجال الميليشيا التي تراقبها بشغف واردفت قائلة له:-
- لا استطيع الكلام الان --سوف اتصل بك حال رجوعي الى البيت ---( فانتبهت)---مهلا ما ادراك بهذا الرقم؟.
- ماذا جرى لكِ يا مجهولة الرسائل --انا اقف بجواركِ في تلك السيارة البيضاء؟.
بقي الخط مفتوحا بينهما ---مشت بضع خطوات حتى وصلت الى السيارة الفارهه ---فتحت بابها بذهوول :- ماذا تفعل هنا؟؟؟.
فتح فاهه وما زال الهاتف فوق اذنه :- لماذا انتِ هنا ---انا انتظر شخصا اخر؟؟؟.
بقيت عيناهما ببعضهما والخط مفتوح في هاتفيهما --فلا تفسير لديهما لما يحدث ---قطع ذهولهما رجال الميليشيا الملثمين ---سحبوها من ذراعها وصولا الى والدها في خطى راكضة وهي ملتفتة نحو حبيبها الذي كبلت يداه الى الخلف ووضع كيس اسود في راسه ---ووضعوه في صندوق احدى سياراتهم منطلقين بسرعة فائقة .
وقفت في وسط الشارع والمكان يدور بها ---كان رجال الميليشيا قد وصلوا به الى مقرهم السري ---اجلسوه راكعا على ركبتيه ورفعوا الكيس من فوق راسه وما زالوا ملثمين ---وقف والدها واولاد عمها متفاجئين :-
- اليس هذا هو صديق فرقد يا عم ؟؟؟
اجاب والدها وشفتاه ترتجف :- بل هذا من جاء لخطبة ابنتي .
حينها رفع راسه وهو يكلم والدها والجميع مصغون :- لقد احببتها بشدة منذ سنوات الجامعه .
كانت هي في تلك الاثناء تسير في الشوارع بخطى حائرة وتائهة ---تمشي من غير هدف ---وهو يسرد لهم قصة حبه لها مكبل اليدين الى الخلف :-
- لم ارد الا الزواج منها لكني قوبلت بالرفض لاني فقير جدا واهنت لاني من عقيدة اخرى .
توغلت هي بخطاها داخل شوارع تلك المدينة والمارة يتلفتون نحو تلك الغريبة التي دخلت قلعتهم باكية ---.
اما هو اكمل كلامه :- لقد وقف فرقد في طريق سعادتي وعيرني بالفقر --.
جهز رجال الميليشيا الاسلحة ووزعوها على اولاد عمها واعطى كبيرهم سلاحا لوالدها وهو يشد على يده قائلا:- الشرف لكم في اخذ ثأركم --.
نظر والدها الى قاتل ابنه وهو ممسك بمسدسه :- لم يبق مكان في جسد ولدي الا وبه ثقب ---لم نستطع ان نغسله لان لحمه مهتريء .
اطلق الرصاصة الاولى في صدر القاتل ---نظر القاتل الى صدره المثقوب والدماء تنزف منه :-
- فعلت ذلك من اجلها ---انا الان ثري ---ولا اهتم للعقائد .
بعد الرصاصة الثانية التي نفذت من كتفه :- لدي بيت كبير --بدل ملحق الايجار .
كانت هي قد وصلت الى مشارف مدينتها ---وهو يسقط على الارض ----
- لدي سيارة فارهه وملابس انيقة ---
لاحت لها القبة الذهبية هناك وضرب بريقها عينيها الغارقة بالدموع ---وضعت خدها على الفضة الباردة ---ووضع راسه على الارض المليئة بالدماء الساخنة وهي تسيل من فمه بعد سيل الرصاص الذي تلقاه ---وقبل الرصاصة الاخيرة التي فجرت راسه نطق باخر نفس بقي في رئتيه اللتين اصبحتا كالمنخل :-
- سوف اصطحبها الى سورية ---لقضاء شهر العسل ---في سفر طويل ----طوووويل .
اتمنى تعجبكم
تحياتي للجميع
منقول من مرارة واقعنا الاليم