لقد تخلينا عن العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا قبل أوان نضوجنا الفكري واستعدادنا لاستيعاب العادات والقيم والمفاهيم الاجتماعية الغربية. إن محاولتنا لمحاكاة الغرب وتبني معايير العولمة والمدنية جعلتنا ننسى عاداتنا وتقاليدنا التي حافظت على النسيج الاجتماعي وعلى الإلفة بين الناس.
العادات والتقاليد هي مجموع ما اتفق عليه الناس من سلوكيات وأساليب تعامل وهي محصّلة متراكمة لما خاضته الشعوب من تجارب واستنتاجات لكي تحافظ على هويتها وتردع عنها الأخطار وتضمن ديمومتها.هنالك الكثير من العادات والتقاليد العربية، إذا صحّ التعبير، التي تذوّت القيم الإنسانية من خلال ممارستها أو مراعاتها مثل إكرام الضيف واحترام كبير السن والمشاركة الجماعية في المناسبات، واحترام الوالدين ونًسبِ مكانة خاصة للشقيق الأكبر، والحفاظ على علاقة الجيرة الحسنة. لقد كان للدين التأثير الأكبر في شرعنة أو رفض هذا العرف أو ذاك، وقد زوّد الكثير من العادات والتقاليد ذات الطابع الديني،nbsp; كاحتفالات الأعياد، واستقبال الحجاج، وتزيين شجرة عيد الميلاد، وتوزيع هدايا بابا نويل، وصنع كعك العيد وغيرها، كما أن للمعتقدات الدينية كان دور ايجابي في تهذيب الكثير من الأعراف والتقاليد في المجتمع العربي. كل هذه العادات شكّلت صمغاً اجتماعيا لالتحام شرائح المجتمع ببعضها البعض، ودستوراً غير مدوّن يعرفه الكل ويلتزم به طوعاً.
حسب اعتقادي، لقد تخلّينا قبل الأوان عن الدين الذي يحمل الكثير من العقائد الاجتماعية والقيم السامية التي وحّدت الصفوف وصهرت الناس في بوتقة واحدة. لم نصل بعد إلى درجة من الرقي والأمان ورخاء العيش وصفاء النفوس وسموّ الأخلاق لنتخلّى عن الدين برمّته ومن الخطأ والمُجحف أن نعزو للدين التأخّر والرجعية. حتى الشعب الأمريكي وشعوب أوروبا المشهورون بالليبرالية والانفتاح، والذين نحاول محاكاتهم وتبنّي رموزهم وقيمهم، لم يتنازلوا عن بعض التعاليم والطقوس الدينية لأن العقيدة الدينية، أي عقيدة،nbsp; تساهم في تكافل المجتمعات وضبطها.
هنالك حقب تاريخية غابت فيها سلطة القانون عن منطقتنا، وقد قامت العادات والتقاليد بدور القوانين، ومن كان يقوم بخرق العادات والتقاليد خشي من الاستنكار والإقصاء من قبل مجتمعه. إن القوانين المدنية التي تسيّر أمورنا اليوم والمحاكم التي تفصل بين الخصوم وتعاقب من يتجاوز القانون وتزج بالأشرار في السجون وتقاضي من يتأخّر عن دفع الرواتب لعامليه لا تُعدّ أكثر نجاعة وأكبر ردعا من العادات والقوانين في الأزمنة الغابرة. حتى الخدمات التي يقدّمها التأمين القومي اليوم للعاجزين والمسنين والمحتاجين كانت تزوّدها العادات والتقاليد بشكل مباشر أو بشكل مؤازرة ومواساة.
في كثير من الأحيان نقوم بالمديح والثناء على من يقوم بكسر العادات والتقاليد وقد نرى بذلك بطولة وتحديًا وخصوصا عندما يقوم بذلك بعض من فتياننا وفتياتنا دون التأكّد من إيجابية هذا الكسر ومساهمته في بناء المجتمع، كما ونقوم بوصف من يصرّ على التشبّث بالعادات والتقاليد قولاً أو فعلاً أو مظهراً أو رأياً أو موقفاً بالرجعية والتأخّر وفي أحسن الأحوال ننعته بالوصف دقة قديمة دون أن ندرك بان الكثير من هذه العادات والتقاليد هو جزء لا يتجزّأ من تراثنا وتاريخنا وميزاتنا وهويتنا كعرب وكشعب من الشعوب. حتى حين فكّرت في كتابة هذه المقالة ساورتني خشية باني لو قمت بالثناء على العادات والتقاليد سأُتهم بالتأخّر وعدم التمشي مع متطلبات العصر وإملاءات الموضة.
لم أصل إلى درجة من السذاجة لأجزم بأن كل العادات والتقاليد التي سادت في العقود الغابرة تلائم عصرنا الحالي، أو أنها عادات إيجابية أو مفيدة للمجتمع، لكننا قُمنا في تبني عادات وتقاليد غيرنا بسرعة فائقة من دون أن نفحص مدى ملاءمتها لنا، ومثلها مثل الذي اقتنى سيارة دون أن يفحصها, أو ابتاع بيتا دون أن يتأكّد من ثبوتية مُلكه, أو زرع شجرة دون أن يدري إلي أي حجم أو ارتفاع قد تصل.
سارعنا إلى التقاط العادات الغربية وحقن القيم التحررية في عُروقنا دون أن نقوم بنصب روادع أو وضع حدود أو حتى ملاءمة هذه العادات لواقعنا. باختصار نحن في وضع لا نحسد عليه لأننا تخلينا عما لدينا ولم نستطِع معايشة وتذويت وهضم القيم الجديدة التي استوردناها من الخارج, وأصابنا ما أصاب الغراب الذي تخلّى عن مشيته وراح يُقلّد الحجل ذا المشية السريعة والمنسابة فأُخفق بذلك ونسي طريقة مشيه.
معظم الأهالي يتخبّطون اليوم حول الطريقة المُثلى للتربية والتعامل مع أبنائهم وبناتهم فيما يخص التدخّل بحرياتهم الشخصية ومراقبة سلوكياتهم والتأثير على قراراتهم واختياراتهم, فهنالك جرف من القيم والرموز والمفاهيم والسلوكيات الدخيلة التي تبنّتها الأجيال الصاعدة والتي أدّت بهم إلى انحرافات خلقية وتقصيرات في الانجازات المدرسية والى استشراء العنف وإلى اختلال بموازين القوى في العائلة, فبين ليلة وضحاها بات يُعزى وزن هائل لرأي الأولاد دون أن يرافق ذلك نضوج فكري من طرفهم. وترى الأهل اليوم يقفون مشدوهين أمام هذه الحضارة الغريبة وهذا الواقع الجديد الذي يختلف كليا عن الواقع الذي ترعرعوا به, وتشهدهم تارة يعاقبون الولد بقسوة ويحرمونه من التواصل مع أصحابه بالانترنت أو بانتزاع الهاتف الخليوي منه, وتارة يغدقون عليه الهدايا والألعاب وينصاعون لطلباته التي لا تنتهي أبدا, ويتغاضون عن وقاحته ومشاكساته لمعلّميه, وعن الفوضى العارمة في غرفته.
باعتقادي, إذا استمرّ الوضع الراهن على ما هو سنفقد هويتنا وميّزاتنا كشعب. يجب أن نحاول استعادة مجدنا عن طريق إرجاع بعض العادات والتقاليد التي كنا نمارسها بعد أن نلائمها للواقع الجديد ونرمي الغثّ منها ونحتفظ بالسمين. قد تسخرون مني, فأنا اعتقد بأنه يجب إرجاع تقاليد العرس العربي والزي العربي أو ما يُذكّرنا بالزي العربي, واستعادة سلطة الأب في العائلة ومكانة المُسن في العشيرة, واستخلاص العبر من بعض التعاليم الدينية التي تحمل القيم الاجتماعية والإنسانية, ولجم جماح التحرّر الزائد عن حدّه والسابق لأوانه وإعادة بناء هذا المجتمع الآخذ بالانهيار, وان كانت إحدى الطرق إلى ذلك هي العادات والتقاليد فلتَكن