أنا شاب في مقتبل عمري.. عشت وحيدا معظم حياتي.. فقد ماتت والدتي بعد ولادتي.. وعشت مع أبي إلى أن جاء الأجل.. وبقيت وحيدا عدة سنوات.. فجزى الله والدي عني كل خير فقد رباني على الأخلاق والصلاة وحب الناس.. وبعدما صرت وحيدا واظبت على الصلاة في المسجد..
وفي يوم من الأيام وبعد خروجي من المسجد في وقت الفجر وإذا بامرأة عجوز جالسة على طرف من أطراف المسجد.. فوقفت مستغربا عما تفعله هذه المرأة في هذا الوقت في المسجد.. فتوجست خيفة عن مصيبة أصابتها ويكون لها ابن أو زوج ما زال داخل المسجد يتعبد.. فذهبت إليها سائلا:
ماذا تفعلين هنا يا عجوز.. ألك حاجة في هذا الوقت المبكر؟
فإذا بالمرأة تبكي بكاء قهر.. بكاء مغبون ضعيف.. بكاء ينم عن أنها منكسرة الخاطر..!!
ما الذي يبكيك يا عجوز.. ألك ابن أو زوج تنتظرينه؟
فهزت رأسها توحي بالنفي..!!
إذن ما الذي يبكيك وما هو السبب الذي جعلك تجلسين هكذا في هذا الوقت؟
وبصعوبة بالغة.. تخرج منها الكلمات وكأن النار تخرج من فمها ولا تريد لها أن تخرج..
أخرجني أولادي من بيوتهم فهم لا يريدون مني أن أبقى في بيوتهم رضاء لزوجاتهم؟
انتفضت من مكاني وكأن أفعى قد لدغتني.. ودارت بي الدوائر.. كيف لهذه المرأة أن يكون لها أولاد وتكون في مثل هذا الموقف.. أي أولاد هؤلاء الذين رضوا لأنفسهم أن يخرجوا أمهم ويسكنونها المسجد.. ألم يتعلموا أخلاق الإسلام..!! أوهل تتدخل أمهم في أمورهم بحيث أصبحوا لا يطيقون وجودها في أي من منازلهم..؟! ولكن لا تبدو هذه المرأة من هذا النوع حيث إن بكاءها المكتوم ينم عن أنها امرأة مسالمة.. حتى وإن كانت كذلك فإن الله يأمرنا ببر الوالدين.. وإن كانا كافران فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز {وصاحبهما في الدنيا معروفا}..
نظرت إلى المرأة الباكية.. ثم جلست بجانبها أهدئ من روعها.. ثم قلت:
يا عجوز.. إنني شاب فقير.. أبي وأمي ماتا وتركاني وحيدا.. لم أتزوج بعد لأنني لا أملك المال لهذا الحمل الثقيل.. فأنا أعمل صيادا أعتاش من البحر.. فهل ترضين أن تكوني أما لي أمام الله وأمام الناس.. تعيشين في بيتي الصغير.. وتأكلين مما يفيض الله علي من نعمه؟!
فما كان منها إلا أن زادت بكاء تنظر إلى حالها!! فهي بالطبع تفكر بأولادها الذين رموها ويأتي من هو ليس من نسلها ليقول لها أنت أمي أمام الله وأمام الناس!! فقلت لها..
هيا يا أمي ولا تصعبي علي وعلى نفسك الأمر!!
فما كان مني إلا أن أمسكت بها وذهبت بها إلى بيتي.. وقلت لها:
اسمحي لي يا أمي فأنا معتاد في مثل هذا الوقت أن أذهب إلى البحر طالبا الرزق!!
وخرجت من عندها متجها نحو البحر.. وقفت على الشاطئ ممسكا بشبكتي ورميت بها إلى البحر داعيا الله أن يرزقني.. وانتظرت طويلا حتى أصبحت الشمس عمودية لاهبة.. فشددت شبكتي وإذا بسمكة واحدة فيها. فحمدت الله على رزقه وعدت إلى البيت.. لأجده في أبهى وأنظف ما يكون.. فأنا لم أكن لأفعل هذا لولا أمي التي بعثها الله لي مرة أخرى..
شكرتها على ما فعلت.. وأعطيتها السمكة لتطبخها لنا على أن أنام قليلا.. واستغرقت في نومي.. وبعد حوالي ساعتين صحوت وإذا بأمي تجلس أمامي حزينة.. فقلت لها..
ما بالك يا أمي؟
السمكة التي جلبتها!!
ما بها يا أمي؟
جاءت قطة وأخذتها من على الإناء وأنا أحضر لأطبخها لك.
لا عليك يا أمي سنأكل مما في البيت وغدا سأحضر لك سمكا كثيرا لتطبخيه لنا.. فليس لنا نصيب في هذه السمكة؟
فابتسمت أمي لهذا الكلام وقامت وأحضرت من القليل الموجود وأكلنا والحمد لله.
وفي اليوم التالي بعد أن صليت الفجر في المسجد ذهبت إلى الشاطئ واصطدت أيضا سمكة واحدة.. ورجعت إلى البيت وأعطيتها إلى أمي لتبطخها وذهبت للنوم.. إلا أنه حصل مع أمي مثل ما حصل أمس.. ودار بيننا الحوار نفسه..
وجاء اليوم الثالث.. وأحضرت إلى أمي سمكة كانت أيضا حصيلة ما رزقني الله به.. وأعطيتها إلى أمي وذهبت إلى النوم.. وهنا جاءت القطة وأخذت السمكة للمرة الثالثة.. فما كان من أمي إلا أن لحقت بها تريد استرجاع السمكة.. تركض خلف القطة ترميها ببعض الحصيات لتترك السمكة.. ولكن القطة ما زالت تركض والسمكة في فمها وأمي خلفها إلى أن دخلت كهفا صغيرا كان قريبا من البيت.. ودخلت أمي خلفها.. وقفت أمي في الكهف المظلم لا ترى شيئا إلى أن اعتادت عينا أمي على الظلمة.. ويا لهول ما رأت.. ما هذا الذي أرى.. نزلت أمي إلى حيث الذي ترى وكانت فرحتها عظيمة حينما أمسكت قطعا ذهبية بيديها.. ما هذا يا ترى؟! أهو ذهب أم شيء آخر.. فاغترفت أمي بيديها ما استطاعت.. وركضت مخبئة ما في يديها إلى البيت.. جاءت عند رأسي وقالت:
استيقظ يا خالد – وكان هذا اسمي – استيقظ يا ولدي!!
رفعت رأسي وأنا أقول:
ما بك يا أمي.. أهي القطة مرة أخرى.
نعم هي القطة.. ولكن أنظر ما في يدي!!
يـــا الله.. كانت هذه الكلمات التي خرجت من فمي حين شاهدت ما في يدي أمي.. وأخذت منها قطعة أتفحصها.. ويا لها من فرحة فهي ذهب حقيقي.. فسألتها:
من أين لك هذا الذهب يا أمي؟
لقد جاءت القطة يا ولدي وأخذت السمكة للمرة الثالثة.. فما هان علي أن تأخذها ونظل نحن بلا شيء نأكله.. فلحقت بها وما زلت ألحق بها إلى أن دخلت كهفا مظلما؛ فدخلت خلفها.. ولما اعتادت عيناي على الظلمة رأيت هذا الذي يلمع فاغترفت منه غرفة بيدي وجئتك على الفور..
هل يوجد غير هذا يا أمي؟!
نعم يا خالد...
أمسكت بأمي وهي تدلني على مكان الكهف.. وما أن دخلنا حتى صحت..
يا ألله ما أكثر هذا الذهب.. وما أجمله.. وما أجملك يا أمي.
هيا يا خالد لنأخذ هذا الذهب إلى البيت ولنحرص على ألا يرانا أحد.
فصرت أجمع هذا الذهب وأخذته إلى البيت. وعلى الفور أخذت قطعة منه وذهبت إلى السوق واشتريت ملابس وطعام لي ولأمي..
وصرت أبحث عن بيت أجمل وأكبر لي ولأمي لنعيش فيه سوية.. إلا أن الناس يستغربون ويسألون من أين جاء خالد بهذا المال.. هل سرقته أم ماذا؟.. فأخبرتهم بالقصة وأن أمي وجدت هذا المال في كهف مهمل بالقرب من بيتي.. وشاع الخبر بين الناس.. حتى وصل إلى أولاد أمي الحقيقيين؟
فاجتمعوا كلهم وصاروا يرددون إن التي وجدت الذهب هي أمنا فلماذا لا نذهب ونأخذ الذهب.. إنه من حقنا نحن وليس من حق هذا الذي يدعى خالد.. وجاءوا بالفعل يطلبون الذهب.. فوقفت لهم بالمرصاد وكم حاولوا أن يأخذوا أمي والذهب إلا أن أمي لم تكن لتنظر إليهم.
باءت كل محاولتهم بالفشل.. ووقف معي بعض الأصحاب والجيران.. فذهبوا إلى القاضي يشكونني بأنني أحتجز أمهم وذهبها عندي.. وارسل إلي القاضي الذي كان قد سمع بقصة الذهب.. وهنا صار الحوار شديدا عند القاضي بيني وبينهم..
وهنا وقفت أمي قائلة الكلام الفصل..
يا سيدي القاضي.. ما تقول بأولاد رموا بأمهم إلى الشارع من أجل إرضاء زوجاتهم.. سرت في ظلمات الليل في الشوارع هائمة على نفسي.. أين أذهب.. أولادي طردوني من بيتي، ليس لي أقرباء هنا.. بقيت أمشي حتى ساقتني قدماي إلى مسجد القرية.. وجلست في إحدى جنباته أبكي على ما فعله أبنائي بي.. حتى التقيت هذا الشاب – ابني الذي ليس من صلبي – جاء مستفسرا عما أفعله هنا في هذا الوقت.. وحينما علم بقصتي عاهد الله أن يكون لي خير الولد أمام الله وأمام الناس.. وقد سمعت يا سيدي القاضي قصة السمكات والقطة والذهب.. وها هم أولادي من صلبي الذين رموا بي إلى الشارع جاءوا يطالبون أن أرجع معهم.. لماذا لأن هدفهم هو الذهب وليس أنا.. نعم هم جاءوا ليأخذوا الذهب وليس ليبروا أمهم.. وهذه هي قصتي يا سيدي القاضي فانظر ما تحكم بيننا؟
وهنا تأثر القاضي لكلام أمي ونظر إلى أولادها بعين الغضب.. وإلى بعين الرضي واللين.. وقال:
يا خالد: لم فعلت مع هذه المرأة ما فعلت؟
فقلت: يا سيدي.. إن في القصص لعبر.. وإنه "كان في الأثر رجل صالح كان أبواه يعيشان عنده.. فماتت أمه.. فبكى عليها.. ثم مات أبوه فبكى عليه بكاء شديدا.. فجاء أحد الأصحاب وقال له.. ما بالك يا أخي تبكي كل هذا البكاء فالله أمرنا أن نصبر على ابتلاءاتنا ومصائبنا.. فإذا بهذا الصالح يقول.. يا أخي لقد كان عندي بابان يدخلانني الجنة. فأغلق الباب الأول حين ماتت أمي.. ثم أغلق الباب الثاني بموت أبي.. فلا أدري أأدخل الجنة الآن أم لا؟! وأنا ساق الله لي هذه المرأة لأبرها وأدخل بها الجنة.. فأراد الله أن يمن علينا في الدنيا والآخرة كيف لا وهو الذي يقول في كتابه الكريم {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} صدق الله العظيم!!
فأقر القاضي بأن تبقى أمي عندي وأن يكون الذهب لنا نحن.. فما رزقنا الله هذا الذهب إلا باجتماعنا نحن الاثنين.