الغول والعنقاء والخل الوفي، هكذا اعتقد أجدادنا أن الصداقة أحد المستحيلات الثلاثة، أصدقكم القول إني لم أعتقد يوما بصحة هذا الاعتقاد، وأراه تعبيرا مجازيا عن الرؤية المثالية للصداقة بما تحمله من تصورات ساذجة عن العطاء بلا حدود، لكني أتذكر تلك المقولة القديمة كلما شعرت بالغضب من صديق عزيز وخلال مرحلة الغضب التي لا تمتد والحمد لله سوى دقائق قليلة أرى كل عيوب الصديق وكأن كل مميزاته قد اختفت فجأة، وبعد زوال الغضب وعودة الهدوء، تتبدل الصورة وأجدني أتذكر الأوقات الجميلة التي جمعتنا وأحصي دلائل كثيرة عن إخلاص وعطاء نفس الصديق الذي كنت أراه منذ قليل إنسانا سبب لي ألما كبيرا وأرغب بشدة بعقابه.
ولأني أعرف مقدار الألم الذي نشعره حين نعتقد أن صديقا أخطأ بحقنا أو جرح مشاعرنا، وأعرف أننا يمكن أن نخسر خلال لحظات الغضب ما يصعب تعويضه، أرغب أن أنقل لكم تجربة بسيطة جربتها على نفسي خلال الأيام الماضية، وقد لخصت تلك التجربة بأربع خطوات متتالية،
أولا الصمت بمرحلة الغضب فهي مرحلة تشوش وغالبا ما ننطق بما لا نود قوله حقا وبالتأكيد سنسمع ما لا نحب سماعه، والصمت هنا ليس حكمتي وحدي بل هو حكمة راسخة بثقافتنا العربية الإسلامية، فرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم- هو المثل الأعلى الذي علمنا كيف نكسب بالصمت أثناء الغضب أكثر مما نكسب من الكلام.
الخطوة الثانية هي محاسبة النفس خلال مرحلة الهدوء بعد التخلص من الغضب، وعلى الشخص هنا أن يضع نفسه موضع الآخر، أي يفكر فيما أخطأ من وجهة نظر الآخر قدر الإمكان وبحسب معرفتنا به، فان كنا نعرف مثلا عن الصديق أنه لا يحب سلوكا معينا لكننا قمنا بهذا السلوك بشكل يبدو متعمدا فنضع نقطة ايجابية للصديق تقابلها نقطة سلبية لدينا، وهكذا نحلل مكمن الخلاف أو الشجار مع الصديق، وعلينا خلال تلك الخطوة البسيطة أن نعي أن الشيطان يكمن بالتفاصيل، فيجب أن نراجع التفاصيل ونحذف منها ما نعرف أنه لا يعبر عن حقيقة بقدر ما يعبر عن غضب، ولنجاح تلك الخطوة يجب أن نحل محل الصديق تماما أي أن نفكر كما يفكر هو بنفس الظروف والسياقات التي حدث خلالها الخلاف.
الخطوة الثالثة تبدأ بتحليل نتائج الخطوة السابقة على أساس واقعي، وأقصد بذلك التخلص من التصورات المثالية عن الصداقة والرضا بكون الإنسان كائنا ناقصا وأن كان ينشد الكمال، ولو كنا صادقين خلال تفكيرنا بالصديق فسنكتشف بالتأكيد أننا ربما أخطأنا أكثر أو أقل قليلا، علينا أن نقبل ضعف الإنسان وتناقضاته لأننا بشر،
وأخيرا يمكن لنا أن نصل للخطوة الأخيرة وهي المبادرة بالغفران، العدل هو أساس التسامح بين الأصدقاء لكنه العدل الذي يقوم على مشاعر صادقة وعطاء متبادل، العدل قبل الحب أحيانا فلو تحولت علاقة الصداقة إلى استغلال فسيختفي العدل والحب معا، هناك مثل مصري يقول « جنة من غير ناس ما تنداس « فالبشر خلقوا كي يحيوا معا ويعمروا الأرض ولا يمكن لإنسان أن يحيا وحده ويكون طبيعيا، والتسامح هو سر بقائنا لأننا نعرف بغريزتنا أن كلا منا يحتاج للآخر بقدر احتياج الآخر له، فلا يجب أبدا أن نترك مشاعر جميلة تموت لعدم قدرتنا على الغفران، ولا يوجد من ثروات ما يمكن أن يعوض خسارة صديق، فدعونا نتمهل لنكتشف أن لا شيء يستحق تلك الخسارة.
اتمنى يعجبكم
لكم مني الاحترام