غريب على الخليج
تعد قصيدة غريب على الخليج من عيون قصائد السياب ، وهذه القصيدة كتبها عندما كان يرقد مريضا في إحدى مستشفيات الكويت ، وكان يمر بضائقة شديدة فكان يعاني الفقر والمرض والضياع إضافة إلى ما يعانيه وطنه في ذلك الوقت ، واشتملت هذه القصيدة على الكثير من صور تلك المعاناة فضلا عن الروح الوطنية العالية ، فهذه القصيدة كلمات لشاعر يعصره الألم الحاد من المرض والغربة .
يبدأ الشاعر قصيدته واصفا معاناته وهو بعيد عن وطنه العراق وحبه الشديد لوطنه وأمله في العودة لوطنه ، وبعد ذلك يستحضر الوطن وتذكر المقاهي التي كان يرتادها وذكريات الزمن والتخيل والغروب والظلام ، ثم يبدأ الشاعر بمخاطبة محبوبته والعراق وكأنهم شيئا واحدا فربط بين المرأة والوطن بعلاقة قوية لا انفصام بها فالحب بلا وطن لا يمنح الوصال والوطن الذي يخلو من الحب هو مكان ظالم لأهله فالمرأة والوطن كلاهما مصباحان ينيران طريق الشاعر المظلم .
ويصف الشاعر بعد مخاطبته لمحبوبته ووطنه حبه للوطن وما يلاقيه من معاناة وألم وهو بعيد عن العراق ولا يستطيع العودة ، ويحلم الشاعر أن يعود لوطنه ويلح في ذلك .
ويختم الشاعر قصيدته هذه في الحسرة لعدم قدرته على العودة على العراق ، فلا يملك إلا الدموع ، ويفقد أمله بالعودة إلى وطنه الذي حلم طويلا بالعودة إليه .
كان الشاعر بارعا في استخدام الصور الشعرية منذ بداية القصيدة إلى نهايتها ، وكان يعتمد في كثير من الأحيان على هذه الصور الشعرية في من أجل التعبير عن بعض المعاني والأفكار المختلفة ، وذكر الشاعر في قصيدته بعض الحكايات المروية في التراث كحكاية عروة بن حزام ومحبوبته عفراء .
مال الشاعر في كثير من الأحيان إلى استخدام الرموز الشعرية وما لها من دلالات في نفس الشاعر والقارئ ، وأكثر من استخدام أساليب الاستفهام والنداء ، كما مال أيضا إلى استخدام المحسنات البديعية مثل الطباق ، ومال إلى تكرار المعاني وخاصة في حديثه عن شوقه وحبه لوطنه الحبيب العراق .
تنوعت العاطفة التي سيطرت على الشاعر منذ بداية النص إلى نهايته بين تعب ويأس وحزن من الغربة وشوقه وحبه للوطن الحبيب ، إلا أن العاطفة الأبرز هي عاطفة الأمل بالرجوع إلى وطنه العراق بعد غربته التي عانى فيها الكثير .
المقطع الأول : وصف معاناة الشاعر وهو بعيد عن وطنه وأمله بالعودة إلى العراق
الريح تلهث بالهجيرة، كالجُثام، على الأصيل
و على القُلوع تظل تُطوى أو تنشر للرحيل
زحم الخليج بهن مكتدحون جوَّابو بحار
من كل حافٍ نصف عاري
و على الرمال ، على الخليج
جلس الغريب، يسرح البصر المحير في الخليج
و يهدُّ أعمدةَ الضياء بما يُصعِّدُ من نشيج
أعلى من العباب يهدر رغوه و من الضجيج
صوت تفجَّر في قرارة نفسي الثكلى : عراق ،
كالمد يصعد ، كالسحابة ، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي : عراق ،
و الموج يعول بي : عراق ، عراق ، ليس سوى
عراق !
البحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما تكون
والبحر دونك يا عراق
تلهث : تخرج لسانها من عطش أو حر والمقصود مجهدة ، الهجيرة : نصف النهار عند اشتداد الحر ، الجثام :الكابوس ، الأصيل: الوقت بين العصر ومغيب الشمس ، القلوع : جمع قِلع وهو شراع السفينة ، تطوى : يضم بعضها على بعض ،تنشر : تبسط ، زحم : امتلأ ، مكتدحون : كسبوا بمشقة ، جوّابو: جمع جوّاب ، والمقصود البحارة دائمو الإبحار والسفر ، حاف : من يمشي بلا نعل والجمع حُفاة، الغريب : المقصود الشاعر نفسه ، يسرح البصر:يرسله، يهد : يكسر، أعمدة الضياء : الآمال ، يصعد : يزيد ، النشيج : الصوت المتردد في الصدر ، العُباب : ارتفاع الموج ، الضجيج : الأصوات العالية ، في قرارة نفسي : في عمقها ، الثكلى : الأم التي فقدت ولدها ، والمقصود نفسه الحزينة ، المد : ارتفاع ماء البحر على الشاطئ ، يصعد : يعلو ، تصرخ : تصيح بشدة ، يعول : يرفع الصوت بالبكاء ، دونك : أمامك .
بدأ الشاعر قصيدته وهو متعبا ، ويظهر هذا التعب حوله ، فالريح تلهث من الحر والتعب وكأنها كابوس على صدره ، وهذه الريح لا تستطيع أن تحرك أشرعة السفن فتعيده إلى بلاده ، وترسو السفن على الشاطئ مستعدة لحمل البحارة الذين يكدحون دائما لكسب العيش ، منهم الحافي ومنهم النصف عاري .
ثم يجلس الشاعر حائرا ويرسل بصره إلى الخليج ، يدمر آماله بالعودة إلى العراق فنشيجه قد بدا يصعد من صدره أعلى من موج البحر، ومن هدير رغوه ومن الضجيج، خرج من صدر الشاعر كارتفاع موج البحر وكالسحابة المرتفعة وكالدموع التي تذرفها العيون، وكما نلحظ فإن الشاعر يستخدم عراق مجردة من أل التعريف ؛لأن العراق في نفس الشاعر لم تعد بحاجة إلى التعريف فقد أصبح قيمة مطلقة مستغنية عمّا يعرفها.
ويعود الشاعر إلى الريح وهي تصرخ عراق ، ويجعل الموت الذي يحمله إلى وطنه يصيح باكيا عراق ، ويصف بعده عن وطنه بمقدار اتساع البحر الذي يحول دون انتقاله إلى وطنه ويقف عائقًا ليرسم لها مدى بعده عن وطنه .
الصور الفنية
" الريح تلهث بالهجيرة كالجثام على الأصيل " .
شبه الشاعر الريح بالكائن الحي الذي يلهث من شدة الحر والعطش ، وكأنه كابوس يجثم على صدر الأصيل ، وصور الأصيل بالإنسان يجثم الكابوس على صدره .
" وعلى القلوع تظلُّ تُطْوى أو تنشر للرَّحيل " .
يصور الريح وهي ساكنة فترسوا السفن ولا تستطيع الحركة حتى تهب هذه الريح فتحركها .
" يهد أعمدة الضياء بما يصعد من نشيج " .
صور الشاعر آماله بالأعمدة المنيرة وكيف يقوم بهدمها وتحطيمها .
" صوت تفجَّر في قرارة نفسي الثكلى" .
يصور الشاعر صوته المنبعث من نفسه بالبركان ، ويصور نفسه بالأم الثكلى التي تصيح لفقد ولدها .
العاطفة التي سيطرت على الشاعر في هذا المقطع عاطفة التعب والألم والحزن والغضب واليأس من العودة ، وعاطفة الشوق الشديد للرجوع للوطن .
المقطع الثاني:استحضار الوطن وتذكر المقاهي التي كان يرتادها وذكريات الزمن والنخيل والغروب والظلام.
بالأمس حين مررت بالمقهى ، سمعتك يا عراق
وكنت دورة أسطوانة
هي دورة الأفلاك في عمري، تكور لي زمانه
.في لحظتين من الزمان ، و إن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام
، وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام
و هي النخيل أخاف منه إذا ادلهم مع الغروب
فاكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لا يؤوب
،من الدروب وهي المفلية العجوز وما توشوش عن حزام
وكيف شق القبر عنه أمام (عفراء )الجميلة
فاحتازها .. إلا جديلة .
بالأمس : الزمن الماضي ، دورة : اسم مرة من الفعل دار ، الأفلاك : مفردها الفلك وهو المدار الذي يسبح فيه الجرم السماوي ، تكور : تجعلها كالكرة ، لحظتين : يقصد الزمان الذي عاشه داخل العراق والزمان الذي عاشه مغتربا ، يتزلقان : يتزينان ، الرؤى : جمع رؤيا وهو ما يرى في النوم ، ادلهم :اشتد ، اكتظ: امتلأ ، لا يؤوب : لا يعود ، الدروب : جمع الدرب وهو المدخل الضيق ، توشوش : يتكلم بكلام خفي ، حزام : يُقصد به الشاعر عروة بن حزام ، شقَّ : أزيل ، احتازها : امتلكها ، الجديلة: الخصلة من الشعر .
يبدأ الشاعر هذا المقطع متذكرا أيامه عندما في العراق ، وعندما مرَّ بالمقهى وهو في الغربة سمع العراق تناديه عراق ، ويذكر الشاعر بأن وطنه كأنه اسطوانة تدور وتجمع حياته كلها ، وهذه الأسطوانة جمعت له دورة حياته وعرضتها كالكرة في لحظتين من الزمان ، الزمان الذي عاشه داخل العراق والزمان الذي عاشه في بلاد الغربة بعيدا عن وطنه .
ويتذكر وجه أمه الجميل وهي تحتضنه وصوتها الحنون عندما كانت تغني له عندما ينام حتى يرى أجمل الأحلام ، ثم يعود لطفولته وكيف كان يخاف من النخيل وبخاصة عندما يشتد الظلام ، وهنا يشير الشاعر إلى بعض الأساطير والخرافات عندما كان الناس يخوفون أبناءهم من الأشباح ، ويتذكر الشاعر الجدة التي عاش معها بعد وفاة والدته ويتذكرها عندما كانت تفلي شعره وتحكي له القصص الجميلة ويذكر قصة الشاعر عروة بن حزام مع محبوبته عفراء وكيف مات من شدة عشقه لها ، وعندما شقَّ القبر ليراها ضمها إلا خصلة من شعرها وذلك إشارة إلى أن فرحته برؤية محبوبته لم تكتمل .
العاطفة التي سيطرت على الشاعر في هذا المقطع عاطفة الشوق والتعلق بالماضي الجميل وبذكرياته الرائعة وحبه لأمه وفرحه للذكريات الجميلة في العراق وألمه وحزنه لبعده عن العراق .
المقطع الثالث :مخاطبة الوطن والمحبوبة وكأنهما شخص واحد لا يمكن الفصل بينهما.
أحببت فيك عراق روحي أو حَبَبْتُكِ أنت فيه
يا أنتما - مصباح روحي أنتما - و أتى المساء
و الليل أطبق ، فلتشعا في دجاه فلا أتيه
لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء
الملتقى بك و العراق على يدي .. هو اللقاء
شوق يخض دمي إليه ، كأن كل دمي اشتهاء
جوع إليه .. كجوع كل دم الغريق إلى الهواء
شوق الجنين إذا اشرأب من الظلام إلى الولاده
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلاده؟
إن خان معنى أن يكون ، فكيف يمكن أن يكون ؟
الشمس أجمل في بلادي من سواها ، و الظلام
حتى الظلام - هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق
أحببت فيك : المخاطبة محبوبة الشاعر ، أنتما : المخاطبان العراق ومحبوبة الشاعر ، أطبق : اشتد ظلامه ، دجاه : ظلامه وسواده ، أتيه : أضيع ، البلد الغريب : المقصود الكويت ، يخض دمي : يحركه ويدفعه ، اشرأب : مدَّ عنقه لينظر ، يحتضن : يحمي .
استهل الشاعر هذا المقطع بمخاطبة امرأة مجهولة ، لا ندري من هي ؟ قد تكون الزوجة أو الحبيبة وقد تكون المخاطبة هي الأهل الذي أُرغم الشاعر على الابتعاد عنهم ، وقد تكون الوطن ، فالشاعر ربط بين المرأة والوطن بعلاقة قوية لا انفصام بها ، فالحب بلا وطن لا يمنح الوصال والوطن الذي يخلو من الحب هو مكان ظالم لأهله فالمرأة والوطن كلاهما مصباحان ينيران طريق الشاعر المظلم .
يلتفت الشاعر ليخاطب محبوبته ويقول لها : لو جئتِ إليَّ في بلد الغربة الكويت لن تكتمل فرحتي وسعادتي بلقائك ، ففرحتي وسعادتي تكتمل عندما أكون في وطني الحبيب العراق وأنا بين أهلي ، فشوقه إلى وطنه يحرك دمه ويدفعه للقاء ، فشوق الشاعر إلى وطنه كالجوع وأنه لا يستطيع أن يقاوم هذا الجوع الذي يشبه جوع الغريق إلى الهواء فكما لا يستطيع الغريق أن يعيش دون هواء لا يستطيع هو أن يعيش بعيدا عن وطنه ، ويشبه شوقه لوطنه بشوق جنين ما زال في رحم أمه ويتشوق للخروج للتخلص من الظلام وكيف يمد عنقه ليرى النور والحياة .
ويتعجب الشاعر من أولئك الذين يخونون أوطانهم ، وكيف تطاوعهم أنفسهم على ذلك ، ويستذكر وطنه وتعلقه وحبه لوطنه فلا شمس أجمل من شمس العراق حتى الظلام في وطنه ( ويقصد الظلم الذي كانت تتعرض له العراق ) أجمل من أي ظلامٍ في الدنيا لأنه يحتضن وطنه الحبيب العراق .
الصور الفنية
" يا أنتما ، مصباح روحي أنتما "
يشبه الشاعر وطنه و محبوبته بالمصباح الذي ينير دربه ويبعث في نفسه الأمل بالرجوع والعودة إلى الوطن الحبيب .
" والليل أطبق ، فلتشعا في دُجاه فلا أتيه " .
يصور معاناته وهو خارج العراق بعيد عن أهله وأحبته بالليل الذي أحاط به من جميع الجهات ، كما يصور وطنه و محبوبته بالنور الذي يُزيل عتمة الليل فينير الطريق أمامه فلا يضل عن طريق العودة.
" شوق الجنين إذا اشرأب من الظلام إلى الولادة " .
يصور الشاعر شدة شوقه إلى وطنه بشوق الجنين المشتاق لرؤية نور الدنيا وهو يمد عنقه ليخرج من رحم أمه .
العاطفة التي برزت في هذا المقطع شدة حب الشاعر لوطنه و محبوبته والتعلق الشديد بهما وأمل الشاعر بالرجوع إلى الوطن وكرهه الشديد لمن تطاوعه نفسه لأن يخون وطنه .
المقطع الرابع : حب الوطن ومعاناة الشاعر وهو بعيد عن وطنه ولا يستطيع أن يعود إليه .
واحسرتاه ، متى أنام
فأحس أن على الوسادة
من ليلك الصيفي طلا فيه عطرك يا عراق ؟
بين القرى المتهيبات خطاي و المدن الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة
ما زلت اضرب مترب القدمين أشعث ، في
الدروب
،تحت الشموس الأجنبية
متخافق الأطمار ، أبسط بالسؤال يدا نديه
صفراء من ذل و حمى : ذل شحاذ غريب
بين العيون الأجنبية
بين احتقار ، و انتهار ، و ازورار .. أو "خطية"
و الموت أهون من "خطية"
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية
قطرات ماء ..معدنية!
فلتنطفئ ، يا أنت ، يا قطرات ، يا دم ، يا .. نقود
يا ريح ، يا إبرا تخيط لي الشراع ، متى أعود
إلى العراق ؟ متى أعود ؟
يا لمعة الأمواج رنحهن مجداف يرود
بي الخليج ، ويا كواكبه الكبيرة .. يا نقود !
واحسرتاه : أسلوب ندبه تدل على التحسر الشديد ، طلاً : ندى ، المتهيبات : الخائفات ، ما زلت أضرب : أسير ماشيا ، مترب القدمين : دلالة على طول المسير ، أشعث : متلبد الشعر ، متخافق : متحرك ، الأطمار : جمع طَمْر وهو الثوب القديم البالي ، يداً ندية : كريمة ، يدا صفراء : مرضه الذي كان يعانيه ، احتقار : استهانة ، انتهار : إغضاب و ازدجار ، ازورار : مال عنه، رنحهن : حركهن ، يرود : يطلب ويلتمس .
يعود الشاعر إلى ذكرياته الجميلة مع وطنه فيتمنى متحسرا أن ينام ليلة صيفية ويستيقظ على عطر الندى العراقي ، ثم يصف غربته وهو يسير بين المدن الغريبة وهو يغني لتربة العراق التي اشتاق إليها ، ويصف حاله وقد تراكم التراب على قدميه من طول المسير ، والشموس التي يراها ساطعة هي شموس أجنبية وملابسه قديمة ممزقة ، ويمد يده الكريمة إلى الناس سائلا بعد أن أصبحت ذليلة وهو لا يملك شيئا من النقود ، وكيف تنظر إليه العيون باحتقار وازدجار ، ويبلغ هذا الاحتقار ذروته عندما يسمع الآخرين يكررون " خطية " لا إشفاقا فيه وإنما احتقارا له ، حتى إن الموت أصبح عنده أهون من سماع هذه الكلمة ، وهذا ما جعله يطلب منها أن تنقطع لأنه لم يعد متحملا لذل الناس الآخرين .
و يعود الشاعر ليخاطب الريح ويتمنى منها أن تدفع المجاديف فيبحر ويعود للعراق ، ويبين كيف أضاءت له الكواكب طريق العودة ولكن قلة النقود تسد الطريق أمامه فيبقى حزينا .
الصور الفنية
" فلتنطفئ يا أنتِ يا قطراتُ يا دمُ يا نقود ".
صوّر الشاعر قطرات الماء والدم والنقود نارًا يتمنى انطفائها .
" يا لمعة الأمواج رنحهنَّ مجداف يرود " .
صوّر الأمواج أشخاصًا يتمايلون ، وصوّر المجداف إنسانًا يطلب مكانًا أو شيئًا لأهله .
سيطرت عاطفة الحنين والشوق إلى العراق على الشاعر في هذا المقطع ، كما سيطرت عاطفة الحسرة والألم من الآخرين .
المقطع الخامس : البعد عن الوطن وكيف يمكن له أن يعود وحلمه بالرجوع إلى العراق .
ليت السفائن لا تقاضي راكبيها عن سفار
أو ليت أن الأرض كالأفق العريض ، بلا بحار !
ما زلت أحسب يا نقود ، أعدُّكن و أستزيد ،
ما زلت أُنقصُ ، يا نقود ، بكنَّ من مُدَدِ اغترابي
ما زلت أوقد بالتماعتكنَّ نافذتي و بابي
في الضفة الأخرى هناك فحدثيني يا نقود
متى أعود ؟ متى أعود ؟
أتراه يأزِفُ ، قبل موتي ذلك اليوم السعيد ؟
سأفيق في ذاك الصباح ، و في السماء من السحاب
كِسرٌ، وفي النسمات بَرْدٌ مُشبَعٌ بعطور آب
و أُزيح بالثوباء بُقيا من نعاسي كالحجاب
من الحرير ، يشفُّ عمّا لا يبينُ وما يبينْ :
عمَّا نسيت وكدت لا أنسى ، وشك في يقين:
ويضئ لي وأنا أمدُّ يدي لألبسَ من ثيابي
ما كنت أبحث عنه في عَتَمات نفسي من جواب
لم يملأ الفرحُ الخفيُّ شِعابَ نفسي كالضباب ؟
اليومَ و اندفَقَ السرورُ عليَّ يفجأُني أعود !
لا تقاضي : لا تأخذ أجراً ، الأفق : الناحية ، العَريض : الواسع ، مدَد : جمع مدَّة وهو مقدار من الزمن ، يأزف: يدنو ويقترب ، كِسَر : جمع كِسرة ، وهي القطعة من الشيء ، مشبع : ممتلئ ، أنزع : أزيل ، الثوباء : التثاؤب، بُقيا :بقايا الشيء ، يبين : يظهر ، شِعاب : جمع شِعب ، ويقصد مشاعره .
يبدأ الشاعر هذا المقطع بالتمني ، فهو يتمنى أن لا يأخذ أصحاب السفن أجرا من المسافرين ، أو أن تكون الأرض بلا بحار حتى لا يمنعه ذلك من العودة إلى الوطن ، فهو يجمع النقود ويشغل نفسه بعدها ويحرص على جمعها حتى يتمكن من العودة للعراق ، ويخاطب هذه النقود وكأنها إنسان ويطلب منها الاستزادة لينير بيته ، ويسأل هذه النقود التي تشكل عائقا من العودة إلى وطنه متى سيعود إلى وطنه وهل سيرى بلاده قبل أن يموت ؟!
ثم يتحدث بعدها عندما يعود إلى العراق فيستيقظ في الصباح الباكر الندي المشبع برائحة العطور ، ويتثاءب ليزيل نعاسه ويزيل الحجاب الحريري الذي يحول بينه وبين رؤية الأشياء الغامضة ، ولتصبح أمامه الذكريات الجميلة ، فسيفرح ي ذلك اليوم عندما يعود إلى وطنه ولكن هذه الفرحة يخالطها الضباب لعدم وضوح الرؤية فيها .
الصور الفنية
" ليت السفائن لا تُقاضي راكبيها عن سفار ".
صوّر السفائن أناسًا يتقاضون من الركاب أجرة نقلهم بالسفن .
" ما زلت أوقد بالتماعتكن نافذتي وبابي " .
شبّه الشاعر التماع النقود نورًا يضيء الظلمة .
" أزيح بالثوباء بُقْيا من نعاسي كالحجاب من الحرير "
يصور الشاعر بقايا النعاس بالشيء الذي يمكن إزاحته ، كما صور بقية النوم بالحجاب الحريري يكشف عمَّا يبين ولا يبين .
" شعاب نفسي ".
شبّه الشاعر نفسه بالمكان الضيق المليء بالشعاب .
كانت العاطفة الظاهرة في هذا المقطع عاطفة الحسرة والألم والأمل بالعودة والتشاؤم لأنه لم يستطع العودة .
المقطع السادس : فقدان الشاعر الأمل بالعودة إلى وطنه العراق .
واحسرتاه .. فلن أعود إلى العراق
وهل يعود
من كان تعوزه النقود ؟ وكيف تدخر النقودُ
و أنت تأكل إذ تجوع ؟ و أنت تنفق ما يجود
به الكرام ، على الطعام ؟
لتَبكِينَّ على العراق
فما لديك سوى الدموعِ
وسوى انتظارك ، دون جدوى ، للرياح وللقلوع !
تعوزه : يفتقدها مع الحاجة إليها، تدخر : تخبأ ، يجود : يبذل ، دون جدوى : من غير فائدة
يختم الشاعر قصيدته متحسرا متألماً ، لأنه لم يستطيع العودة إلى وطنه العراق ، فهو لا يملك النقود التي تمكنه من العودة إلى العراق فما يملكه الشاعر من النقود تكاد لا تكفي لسد جوعه فكيف يمكن له أن يوفر منها ويعود إلى العراق ؟!
ثم يقسم الشاعر بأنه سيبكي على العراق حين يحضرك الموت وأنت بعيد عنه ولا يملك إلا الدموع والانتظار للسفن والرياح التي قد تحمله إلى العراق .
العاطفة في هذا المقطع عاطفة الحسرة والألم وفقدان الأمل واليأس من العودة إلى الوطن ، واستسلام الشاعر للواقع الذي يعيشه الشاعر .
إضـــاءة
ولد الشاعر بدر شاكر السياب في بلد جيكور قرب البصرة في العراق عام 1926 ، وأنهى تعليمه المدرسي فيها ، ثم ذهب إلى بغداد والتحق بدار المعلمين العالية ، فدرس الأدب الإنجليزي ، واطلع على الثقافة الأجنبية ؛ فأغنى تجربته الشعرية وثقافته الأدبية .
ويعده بعض النقاد الرائد الحقيقي للشعر الحديث مع الشاعرة نازك الملائكة ، ويمتاز شعره بالاتكاء على الأسطورة ،وعمق الصورة الشعرية ، وصدق الانتماء للوطن (العراق) والأمة العربية .
توفي السياب عام 1964 ، تاركا مجموعة من الدواوين منها : " أنشودة المطر" وهو الديوان الذي أخذت منه هذه القصيدة ، ومن دواوينه أيضا : "أزهار ذابلة "، " أساطير " ، و"المعبد الغريق " ، " وإقبال " ، و " شناشيل ابنة الجلبي " .
أما هذه القصيدة التي أخذت من ديوان أنشودة المطر فهي من عيون قصائد السياب ، كتبها عندما كان يرقد مريضا في أحد مستشفيات الكويت عام 1953 ، وكان وقتها يمر بضائقة شديدة الوطأة ، إذ كان يعاني الفقر والضياع فضلا عما يعانيه الوطن العربي آنذاك ، وقد اشتملت هذه القصيدة على كثير من صور تلك المعاناة فضلا عن الروح الوطنية العالية .
أسئلة هامة على الإضاءة .
1.بيّن أثر دراسة بدر شاكر السياب الأدب الإنجليزي ، وإطلاعه على الثقافة الأجنبية على شعره .
2.اذكر مميزات شعر بدر شاكر السياب .
3.اذكر الديوان الذي أخذت منه القصيدة ، واذكر أشهر دواوين الشاعر .
4.متى وأين كان الشاعر عندما كتب قصيدته هذه ؟
5.صف الحالة التي كان يعيشها الشاعر عندما كتب قصيدته
طبعا هاد الشرح للاستاذ معن الدقامسة وبتمنى اي حدا بده ينقلها لمنتدى تاني يحط اسم هاد الاستاذ