صقر الترابين
ثلاث لوحات
اللوحة الأولى:
المكان: مكان ما في صحراء شرقي الأردن قرب معان
راعية بدوية وقعت عيناها، بين النبتات الصحرواية الجافة، على جثة فتى صغير كانت إلى الموت أقرب منها إلى الحياة، فقد كان يبدو أن السيوف والخناجر قد أعملت فيها الطعن من كل جانب، ولم يتركه الجناة إلا بعد أن خيل إليهم أنه فارق الحياة. وكان غير بعيد عن الفتى كديش يظهر أنه رافق الفتى الفارس في سفر طويل من مسافة بعيده ولم يتخل عنه.
لم تتردد الراعية أمام هذا المشهد هنيهة، وطفقت تجمع أوراقا من بعض النباتات المحيطة بها تلوكها بين نواجذها وتلصقها بالجروح على الجسد الغض الممزق تداويه. ثم استدعت الراعية بعض أهلها، وكانوا من عرب الروّاد الذين يقطنون نواحي معان، فنقلوا الفتى إلى مضاربهم وواصلوا معه رحلة العلاج الذي دام شهورا حتى عادت إليه عافيته.
كان هذا الفتى، الذي لم يكد يبلغ الرابعة عشرة من عمره، قد قطع المسافة من بير السبع إلى هذه المنطقة قرب معان وراء فرسان الترابين الذين خرجوا في حملتهم إلى قلعة الشوبك، ينوي الاشتراك معهم، ومحاذرا في الوقت ذاته، أن يروه فيمنعوه لحداثة سنه. غير أن الأعداء انتبهوا إليه، وقد رأوه يحمل رمحا ويتزيا بزي الفرسان، فانقضوا عليه وتركوه جثة هامدة لولا أن لطف الله.
حين علم الرواد أن هذا الفتى يدعى صقر أبو ستة ، أخذت الرحلة معهم خمسة أيام حتى أوصلوه إلى أهله معافى سليما، فنصبت الأفراح ، وتصاعدت الأهازيج ، وتوالت التهاني والتبريكات. وكان الترابين قد عادوا منتصرين من حملتهم التي هدموا فيه قلعة الشوبك .
البدو يعترفون بالحسنة، وقد ظلت هذه الحسنة للرواد عند الترابين وجعلتهم مرحبا بهم يزورنهم كل عام ويتلقون الهدايا منهم، ولعل ذكراها ظلت عطرة بينهم حتى اليوم، وإلى آخر الدهر.
اللوحة الثانية:
المكان: نبع يقال له الشلالة
كتب رحالة فرنسي يدعى Victor Guerin في مذكراته، وكان ذلك في يوم صيفي حار من شهر يونية 1863 م أثناء توقفه بالشلالة مع رفقة له يستريحون ويسقون خيلهم، قائلا: "ما أسرع ما وجدنا أنفسنا محاطين بثلة من الفرسان الكماة يتصدرهم شيخ تبرز عليه سمات الغنى والوقار ، وكان يبدو أنه هبّ ليستطلع هدف هذا الغريب الذي جرؤ على اقتحام ممتلكاتهم بلا سابق إنذار . كان اسم هذا الشيخ: صقر أبو ستة".
كانت الحروب آنذاك تدور رحاها بين التياها والترابين، وكانت السلطنة العثمانية عاجزة عن كبح جماحها، وقد حاولت عبر طرق مختلفة من الدبلوماسية أن توقف من آثارها، ففي وثيقة مؤرخة في عام 1848 تحمل أمرا إلى والي القدس أن يقدم هدايا من عبايات وأرواب إلى شيوخ التياها والترابين، وفي وثيقة أخرى مؤرخة في عام 1878 ( أي بعد ثلاثين عاما ) شكوى من استمرار تمرد التياها والترابين وعجز السلطنة عن حفظ النظام.
لقد ذكر Guerin في مذكراته التي أملاها عام 1863 أن تعداد جند الترابين المشاة يربو على 2000 رجلا ، وأما الفرسان فكانوا يعدون 1500 خيالا. ويبدو أن السلطنة لم تلبث أن غيرت من تكتيكاتها لمحاولة السيطرة على النظام فأرسل والي القدس كتابا إلى صقر أبو ستة لزيارة القدس ، وكان أثناءها في زيارة لدياره بمصر، حيث شجعته السلطات هناك على تلبية هذه الدعوة، فاتجه إلى دمياط ومنها ركب البحر إلى يافا في طريقه إلى القدس، ليجد الحاكم التركي في انتظاره لاعتقاله.
اللوحة الثالثة:
المكان: الفسم القنصلي بإحدى سفارات الدول العربية المجاورة.
اثنان من المراجعين يتشادان بصوت مرتفع قليلا، وفجأة يعلو صوت أحدهما وهو يقول: كأنك صقر أبو ستة!
أثار ذكر اسم صقر عندى انتباها شديدا جعلني اقترب منهما لأستطلع مزيدا من الأمر حول مبعث هذا القول؛ لا سيما وأن المتحاورين ينتميان إلى بيئة فلاحية لا تمت إلى بيئة صقر بصلة، وكان قد مضى على وفاة صقر هذا ما يزيد على قرن من الزمان . وبعد استفسار من جانبي، وجواب منهما عرفت أن هذا الاسم يتداولونه في مناطقهم الوسطى مثلا معروفا منذ زمن قديم لا يعونه، تماما كما يضرب بأبي زيد الهلالي المثل.
ثلاث لوحات
اللوحة الأولى:
المكان: مكان ما في صحراء شرقي الأردن قرب معان
راعية بدوية وقعت عيناها، بين النبتات الصحرواية الجافة، على جثة فتى صغير كانت إلى الموت أقرب منها إلى الحياة، فقد كان يبدو أن السيوف والخناجر قد أعملت فيها الطعن من كل جانب، ولم يتركه الجناة إلا بعد أن خيل إليهم أنه فارق الحياة. وكان غير بعيد عن الفتى كديش يظهر أنه رافق الفتى الفارس في سفر طويل من مسافة بعيده ولم يتخل عنه.
لم تتردد الراعية أمام هذا المشهد هنيهة، وطفقت تجمع أوراقا من بعض النباتات المحيطة بها تلوكها بين نواجذها وتلصقها بالجروح على الجسد الغض الممزق تداويه. ثم استدعت الراعية بعض أهلها، وكانوا من عرب الروّاد الذين يقطنون نواحي معان، فنقلوا الفتى إلى مضاربهم وواصلوا معه رحلة العلاج الذي دام شهورا حتى عادت إليه عافيته.
كان هذا الفتى، الذي لم يكد يبلغ الرابعة عشرة من عمره، قد قطع المسافة من بير السبع إلى هذه المنطقة قرب معان وراء فرسان الترابين الذين خرجوا في حملتهم إلى قلعة الشوبك، ينوي الاشتراك معهم، ومحاذرا في الوقت ذاته، أن يروه فيمنعوه لحداثة سنه. غير أن الأعداء انتبهوا إليه، وقد رأوه يحمل رمحا ويتزيا بزي الفرسان، فانقضوا عليه وتركوه جثة هامدة لولا أن لطف الله.
حين علم الرواد أن هذا الفتى يدعى صقر أبو ستة ، أخذت الرحلة معهم خمسة أيام حتى أوصلوه إلى أهله معافى سليما، فنصبت الأفراح ، وتصاعدت الأهازيج ، وتوالت التهاني والتبريكات. وكان الترابين قد عادوا منتصرين من حملتهم التي هدموا فيه قلعة الشوبك .
البدو يعترفون بالحسنة، وقد ظلت هذه الحسنة للرواد عند الترابين وجعلتهم مرحبا بهم يزورنهم كل عام ويتلقون الهدايا منهم، ولعل ذكراها ظلت عطرة بينهم حتى اليوم، وإلى آخر الدهر.
اللوحة الثانية:
المكان: نبع يقال له الشلالة
كتب رحالة فرنسي يدعى Victor Guerin في مذكراته، وكان ذلك في يوم صيفي حار من شهر يونية 1863 م أثناء توقفه بالشلالة مع رفقة له يستريحون ويسقون خيلهم، قائلا: "ما أسرع ما وجدنا أنفسنا محاطين بثلة من الفرسان الكماة يتصدرهم شيخ تبرز عليه سمات الغنى والوقار ، وكان يبدو أنه هبّ ليستطلع هدف هذا الغريب الذي جرؤ على اقتحام ممتلكاتهم بلا سابق إنذار . كان اسم هذا الشيخ: صقر أبو ستة".
كانت الحروب آنذاك تدور رحاها بين التياها والترابين، وكانت السلطنة العثمانية عاجزة عن كبح جماحها، وقد حاولت عبر طرق مختلفة من الدبلوماسية أن توقف من آثارها، ففي وثيقة مؤرخة في عام 1848 تحمل أمرا إلى والي القدس أن يقدم هدايا من عبايات وأرواب إلى شيوخ التياها والترابين، وفي وثيقة أخرى مؤرخة في عام 1878 ( أي بعد ثلاثين عاما ) شكوى من استمرار تمرد التياها والترابين وعجز السلطنة عن حفظ النظام.
لقد ذكر Guerin في مذكراته التي أملاها عام 1863 أن تعداد جند الترابين المشاة يربو على 2000 رجلا ، وأما الفرسان فكانوا يعدون 1500 خيالا. ويبدو أن السلطنة لم تلبث أن غيرت من تكتيكاتها لمحاولة السيطرة على النظام فأرسل والي القدس كتابا إلى صقر أبو ستة لزيارة القدس ، وكان أثناءها في زيارة لدياره بمصر، حيث شجعته السلطات هناك على تلبية هذه الدعوة، فاتجه إلى دمياط ومنها ركب البحر إلى يافا في طريقه إلى القدس، ليجد الحاكم التركي في انتظاره لاعتقاله.
اللوحة الثالثة:
المكان: الفسم القنصلي بإحدى سفارات الدول العربية المجاورة.
اثنان من المراجعين يتشادان بصوت مرتفع قليلا، وفجأة يعلو صوت أحدهما وهو يقول: كأنك صقر أبو ستة!
أثار ذكر اسم صقر عندى انتباها شديدا جعلني اقترب منهما لأستطلع مزيدا من الأمر حول مبعث هذا القول؛ لا سيما وأن المتحاورين ينتميان إلى بيئة فلاحية لا تمت إلى بيئة صقر بصلة، وكان قد مضى على وفاة صقر هذا ما يزيد على قرن من الزمان . وبعد استفسار من جانبي، وجواب منهما عرفت أن هذا الاسم يتداولونه في مناطقهم الوسطى مثلا معروفا منذ زمن قديم لا يعونه، تماما كما يضرب بأبي زيد الهلالي المثل.