كان كلّما تأخر أبي عن موعده، تضاعفت حواسنا وتوسّعت وجرت خلف شوقها مثل القطط الوفية : كنّا نميّز الضوء المندلق في آخر الحي على واجهات البيوت والجدران، وننصت لصوت محرّكات الشاحنات المارة آخر الليل، ولسعال الرجال العائدين الى بيوتهم.. ولرائحة الدخان.. ووقع الأقدام، كنّا نمسح زجاج النوافذ بأكمامنا كي لا يغافلنا ويفتح الباب قبلنا، و نزوّر علاماتنا قبل الوصول بساعات، ونزوّر شغبنا البريء بلحظات.. علّنا نتلقى إشادة واحدة أو ابتسامة مشققة من وجهٍ هدّه الكدّ. كان الشوق يساعدنا على ان نفرز من بين كل هذه الضوضاء الليلية، ضوء سيارته، وصوت محرّكها اللاهث، وسعاله الأبوي الشهي، ورائحة دخانه الجولد ستار المعتّق بالعرق.. ومشيته المتقطعة و فروته المتعبة التي يلّفها على ذراعه كما يلف مسافات السفر..
بوجوده فقط، كنّا نشعر أن البيت صار أكثر دفئاً، وأن الشاي أحلى طعماً، وان الليل أقصر عمراً، كنّا نختبىء مثل الجراء في عرين فروته ونراقب الفرح وهو يمطر من عينيه الغائرتين بالشقاء..
منذ بداية الشتاء وأنا أمارس طقوس الانتظار التي كنت أمارسها اذا ما تأخّر أبي عن موعده، تضاعفت حواسي وتوسّعت وجرت خلف شوقها كالقطط الأليفة ومع ذلك لم يأت المطر بعد : كل مساء أراقب شرايين البرق علّها تضيء سطوح البيوت والنوافذ الموصدة، وأمسح زجاج النوافذ بأكمامي، وأنصت لمحركات الرعد اللاهث، وأبحث عن سعال المزاريب المزكومة بالغيث، ورائحة دخان البواري، ووقع الشتاء على سقف الزينكو، فأكتشف أن الشتاء لم يعد من سفره بعد..
سأكدّ جاهة للغيم، أنا، والحمام الراقد في طواقي الطين، ووجهاء السنونو، وشيوخ شجر اللوز، ومخاتير الزيتون، وعطوفة المزراب ومعالي العطش.. ولن نشرب فنجان غيثنا الاّ اذا عاد الينا أباً حنوناً دافئاً كما كان، نريده أباً غزيراً وعلى ذراعة فروة من الغيم..
ايها الشتاء تأخرت كثيراً..