التوجيهي سبب للانتحار ...!
حين تتناقل الأنباء كل نهاية دورة دراسية أخباراً عن محاولات انتحار طلبتنا في التوجيهي تكاد هذه الأخبارُ تمر وكأنها متوقعة مسبقا. فالمعلوم أن البيت الذي يسكنه طالب التوجيهي هو بيت يعيش حالة طوارىء نفسية لمدة عام كامل، وتحيط به وبكل ساكنيه هالة من الخوف والترقب والقلق، مما قد يجعلنا نبرر لجوءَ الطلاب إلى ذلك الفكر المتطرف في حال الرسوب في المواد، وهي فكرة التخلص من الحياة. لكن الضغط النفسي الناتج من الإخفاق في تحصيل نتاج جهد فصلٍ كامل ليس كافيا في الحقيقة لأن يؤدي بالطالب إلى هذا المنحى.
قد تكون لهذه الظاهرة أسبابٌ تتراكم لدى طلابنا منذ الصغر بسبب المفهوم الاجتماعي الشائع لسنة التوجيهي على أنها الفيصل في رسم مستقبل الإنسان، بحيث أن لا مفر منها ولاسبيل إلى مستقبلٍ ناجح دون العبور الناجح فيها. وبهذا فإن الشاب أو الشابة يدخلان مرحلة التوجيهي وهما مشحونان بالخوف والترقب والرغبة في إثبات الذات للمجتمع.
لا تبدأ عملية الترقب للتوجيهي مع بدء عامه الدراسي، بل هي مفهومٌ اجتماعي غير محدودٍ بتوقيت، يأخذ مفعولا ملموسا في ذلك العام الدراسي بالذات. كل طالب في المرحلة الأساسية يتعرّض لتلقين مباشرٍ أو غير مباشر عن أهمية التوجيهي ونتيجته التي يحصلها الطالب، وكيف أن رسم المستقبل يبدأ باجتيازٍ ناجح لذلك الامتحان، وتتفاوت هنا مقاييس النجاح بحسب تطلعات العائلة لهذا الطالب، لا بحسب رغباته هو. وبذلك تضحي الفكرة كوضع الطالب أمام مرآة وهمية، بحيث أنه يفهم من حشو الدماغ هذا أنه سيقيَّم في المجتمع بمقدار أدائه في التوجيهي، أو على أدنى حد بمقدار قدرته على بلوغ تطلعات عائلته. فيتوهم أنه ذو قيمة واحترام فقط إن بلغ هذه التطلعات ، وغير جدير بالحياة إن لم يبلغها. وما يزيد الوضع سوءا ويعزز فكرة النهاية الحتمية لدى الطالب هو أن تنشئتنا التربوية لا خيارات متعددة فيها، فالنجاح هو النجاح الدراسي فقط، ولا تـُعرض على الطالب أية احتمالات أخرى في حالة إخفاقه، فلا يؤخذ بالمناحي المهنية أو الإبداعية غير الدراسية. فصورة الطبيب والمهندس لا تزالان المقياس الأعلى للنجاح في ثقافتنا المحكية على الأقل. علما بأن الواقع يثبت أن هذه الصور وشبيهاتها ليست محتكرة للنجاح، وهو ما تحاول الكثير من مؤسساتنا اثباته بتثبيت صورة النجاح في المهن عبر التدريب وبشن حرب على مفاهيم العيب الأخرى المتعلقة بالمستقبل الوظيفي.
ولأن طالب التوجيهي يمر بمرحلة عمرية حرجة أصلا ، تتضخم فيها المشاعر والأحكام غير المنطقية بلا حاجة لهذا الضغط الهائل من المجتمع والعائلة المقربة، فإن ردة الفعل تأتي مهولة. فالطالب الذي يخفق في بعض المواد يشعر فجأة بأنه بلا قيمة، وأنه لن يستطيع تحقيق الاحترام لذاته بين أهله، وأن ليس لحياته مستقبل، فيقدم على محاولة إنهائها، هذا إن لم تكن محاولته استغاثة يطلب بها تخفيف الضغط بشكل أو بآخر. لكن إن نجح في الاستغاثة ، وهذا احتمالٌ يقع رهن مخاطرةٍ كبيرة ، فإن إعادة هيكلة هذه الثقافة الاجتماعية السائدة ستكون صعبة جدا. وتبقى الإحصائيات التي أظهرت أكثر من عشر محاولات انتحار إثر نتائج الدورة الشتوية الأخيرة تقرع جرسا مدويا لأهالي الطلاب في المستقبل. تلك استغاثة جماعية ... فهل من سامعين؟