كل الحركات الإسلامية تتطور عبر الوقت، وتمر بمراحل متعددة. وغالبا ما يكون سؤال السياسة جزءا من تلك المراحل، فالعمل السياسي للحركات الإسلامية، إما أن يكون حاضرا، أو يكون سؤالا تنشغل به الحركة لتحدد موقفا منه. ولهذا أضع تصورا لموقف الحركات الإسلامية من العمل السياسي، وما يمكن أن تصل له في المستقبل، حتى يمكن تحديد التوجهات الأساسية لفكرة العمل السياسي، والوصول إلى تصور عن أفضل الحلول. فالحركة الإسلامية تبدأ دائما دعوية، ولكنها بعد ذلك تواجه سؤالا حول موقفها من العمل السياسي، أي موقفها من تطبيق المرجعية الإسلامية في المجال السياسي. وهنا يكون على الحركة الاختيار بين عدة بدائل محدودة.
فهناك حركات تختار طريق المواجهة المسلحة، على أساس أن النظم القائمة لا تحكم بالشريعة، كما لا تسمح بعمل الحركات الإسلامية السياسي. وهذا الموقف غالبا ما يتوازى مع موقف فكري يميل للتشدد والتطرف. أعني بهذا أن الحركات الإسلامية التي تميل للتشدد والتطرف، والتي لا تعمل بالسياسة، سوف تتحول في وقت ما للعمل المسلح، مادامت على فكرها المتشدد. فهي لا تقبل الواقع، ولا تقبل نظام الحكم القائم، كما أنها لا تقبل استخدام الديمقراطية كوسيلة لاختيار الحاكم. وهذا يجعل الحركات المتشددة تبني رؤيتها على خروج الواقع على الشريعة بالمجمل، مما يجعلها في النهاية تحاول تغيير الواقع بالخروج عليه، أي باستخدام القوة كوسيلة للتغيير.
في المقابل نجد حركات إسلامية معتدلة ووسطية، أي أن فكرها يقوم على التكيف مع الواقع وعدم رفض أدوات وآليات العمل الديمقراطي، وتوازن بين الحفاظ على الثوابت والتجاوب مع متغيرات العصر. ومن هذه الحركات من لا يريد العمل في السياسة، أو يتجنب هذا العمل في مرحلة ما، كنوع من حماية الدعوة، وعدم الصدام مع نظام الحكم. وهذا الصنف من الحركات، نعتبرها من حركات الإصلاح السلمي المتدرج، ولأنها لا تقوم في فكرها على تكفير الواقع أو النظم القائمة، لذلك فإنها سوف تصل في مرحلة من المراحل للعمل السياسي، ويصبح العمل السياسي هو محطة مهمة في تاريخها. وبهذا يكون عدم عملها في المجال السياسي، هو نوع من انتظار التوقيت المناسب له.
أما الحركات المتشددة، والتي تواجه الواقع بأحكام قاطعة ترفض الكثير من متغيرات العصر رغم أنها لا تتعارض مع ثوابت المرجعية الإسلامية، فتلك الحركات كما نرى تتجه يوما بعد يوم إلى المزيد من الاعتدال في التعامل مع الواقع، وبدلا من موقفها المتصادم مع الواقع، نجدها تتجه للتكيف مع الواقع والحفاظ على ثوابتها. وتلك الحركات مصيرها أن تنضم إلى الوسطية والاعتدال الإسلامي، وكما أن مصيرها في نهاية الطريق أن تصل إلى مرحلة العمل السياسي. يضاف لهذا الحركات التي قامت لتقوم بدور شامل، واختارت العمل في المجال السياسي منذ المراحل المبكرة، فأصبحت السياسة حاضرة منذ وقت مبكر من تاريخها.
وهذا لا يمنع من وجود نوعية أخرى من الحركات الإسلامية التي لا تعمل في المجال السياسي، ولن تعمل فيه مستقبلا. وهذه النوعية ليس أمامها إلا السير في أحد طريقين، فأما تتحول إلى الخطاب السياسي السلبي، وتدعو الناس لقبول الواقع وانتظار الخلاص من الله سبحانه، وبهذا ترسخ قيم السلبية، حتى إن لم ترغب في ذلك صراحة، أو تحصر نفسها في مجال العقيدة والعبادة، أي تحصر دورها في دعوة المسلم البعيد عن الدين، ليعود إلى الإيمان والتدين. ومثل هذه الحركات تنتشر سريعا، ثم ينتهي دورها سريعا أيضا، عندما تنتهي مهمتها بعودة الإحياء الديني. فأي حركة إسلامية تدعو للإيمان أولا، ثم يكون عليها الدعوة لإصلاح الأمة واستعادة المرجعية الإسلامية في كل جوانب الحياة، والحركة التي تحصر نفسها في الدعوة للإيمان، ينتهي دورها وتتراجع، قبل أن تصبح مضطرة للدخول في مرحلة إصلاح الأمة واستعادة المرجعية الإسلامية للمجتمع والدولة.
إذا صح هذا التصور، يصبح على الحركات الإسلامية واجب أولي مهم، وهو تجنيب الأمة مرحلة الوصول إلى استخدام القوة في التغيير، وتجنيب الأمة مرحلة الوصول إلى السلبية والاستكانة. فإذا تجنبا خطر استخدام العنف وخطر السلبية، تصبح مهمة الحركات الإسلامية هي إصلاح الأمة، ودعوتها لاستعادة مرجعيتها، حتى تحقق نهضتها الحضارية، من خلال الرؤية الإسلامية الوسطية، التي تميز بين الثابت والمتغير، والتي تتجنب الإفراط والتفريط. وهنا نكون أمام تصنيف جديد للحركات الإسلامية، حيث تنقسم إلى حركات تقوم بنشر الرؤية الإسلامية الشاملة في المجتمع، وتدعو الناس إلى إصلاح المجتمع والدولة، وتدعوهم إلى المشاركة السياسية، والأخذ بالديمقراطية والمطالبة بها، باعتبارها وسيلة نافعة لتحقيق الشورى الملزمة، دون أن تدخل الحركة بنفسها في التنافس السياسي المباشر. ونوع آخر من الحركات الإسلامية، يقوم بنفس هذا الدور، وينخرط مباشرة في العمل السياسي والتنافس السياسي، حتى يتاح وجود فصيل سياسي يحمل مسئولية تطبيق المرجعية الإسلامية على مستوى الدولة والنظام السياسي. وبجانب هذا، يمكن أن توجد الحركات التي تقصر عملها على دعوة المسلم البعيد عن الإسلام، باعتبار أن العودة للتدين، للمسلم وغير المسلم، هو الخطوة الأولى لتأسيس نهضة أمتنا، ويصبح وظيفة هذه الحركة هو البحث عن المسلم البعيد عن الإسلام، وكأن الحركة تقوم بدور الواعظ والمرشد الديني فقط.
إذا نظرنا للصورة بهذه الطريقة، وتجمعت الحركات الإسلامية في مساحة الوسطية، وهي مساحة تسمح بالتباين والاختلاف داخلها، سنصل للمرحلة التي تمثل فيها الحركات الإسلامية تيارا سائدا متنوع ومتجانس في الوقت ذاته. وإذا أدركت كل حركة دورها في إطار المشروع الحضاري الإسلامي، بصورة تحقق التكامل بينها، وترسخ لفكرة تقسيم العمل في الوقت نفسه، سيتبلور بهذا إطار جامع لكل الحركات الإسلامية. فلا يصبح نشاطها خصما من بعضها البعض، ولا تدخل في تنافس يضعفها أمام الاتجاهات الأخرى، أو أمام القوى المعادية لها. وأظن أن هذا ليس تصورا مثاليا، ولكنه ممكن التحقق، وربما يكون محتملا في المستقبل، ولذا يصبح من المفيد التعجيل به.