ربما يرجع ذلك إلى القصور في مجال التطبيق العملي للمعرفة العلمية، أو عدم الاهتمام الكافي بتوفير تعليم منظم لطلاب الطب والفئات الصحية الأخرى فيما يختص بطرائق علاج الألم، وأهمية الأخذ في الاعتبار بتداخل العوامل النفسية وغيرها في ذلك.
يتماشى مع ذلك أيضاً نظرة الكثيرين إلى الألم على أنه مجرد عَرَض لمرض أو إصابة بدنية، مع قليل من الالتفات إلى حقيقة أن الألم يعتبر تجربة شخصية أو خاصة، وأنه يتفاوت كثيراً في شدته بالنسبة لمرض معين، ليس بين مريض وآخر فحسب، ولكن في المريض الواحد من وقت لآخر.
معنى الألم
يؤمن بعض الناس بأن الألم يشير إلى أذى قد وقع على بعض أجزاء الجسم، وأنه حين يشتكي الآخرون من الألم فإن ذلك يعني إشارة إلى مستوى المعاناة التي يقاسون منها.
وقد يعرف البعض من خلال تجاربهم الخاصة أنه يمكن استعمال الألم لجذب مزيد من الاهتمام أو الحب أو العطف. وفي بعض الأوقات أيضاً يستخدم الألم كوسيلة لمراودة الآخرين أو السيطرة عليهم.
وقد ينشأ الألم كمصدر للمعاناة، ليس بسبب إصابة عضوية معينة، وإنما ككفارة يقدمها الشخص لإزالة آثار الشعور بالذنب إذا وقع في إثم ما في حياته، أو حتى إذا كان الشعور بالذنب ناتجاً عن مجرد أفكار آثمة تراوده!
وقد ينشأ الألم في بعض الأوقات لتخفيف آثار اللوعة القاسية الناتجة عن فقد عزيز أو عضو من أعضاء الجسم، ويكون حين ذلك بديلاً عن مشاعر الحزن والأسى.
وهكذا، وكما يشير الدكتور ميشيل بوند في كتاب له بعنوان (الألم: طبيعته ـ تحليله ـ علاجه) فإن أهمية الألم تتفاوت في طبيعتها، فقد تكون تعبيراً عن مشاكل ذات طابع عضوي أو عاطفي ، لذلك فإن الطبيب النفساني الأمريكي الشهير جورج إنجل اعتبر أن وجود الألم في بعض الناس أمر ضروري؛ للوقاية من الأزمات العاطفية أو لعلاجها، وقد أطلق على مثل هؤلاء الناس اسم (الأشخاص ذوو القابلية للألم)، ويكون الألم الذي يشكون منه خالياً من المسببات العضوية، ومن ثم يعرف باسم (الألم النفسي) ويتميز الفرد من هؤلاء الناس بشخصية ذات طابع متشائم ومظلم وكئيب.
وعادة ما يكون هؤلاء الأشخاص غير ناجحين أو غير محظوظين في حياتهم، وعند التمعن في أسباب فشلهم يتضح أنهم أنفسهم سبب في التعاسة اللاحقة بهم !
وقد يكونون في أحسن حالاتهم العاطفية أمام الآخرين حين يمرون بمـرض عضـوي حقيقـي، لكنهـم ـ على النقيض ـ تنشأ آلامهم في الوقت الذي يكونون فيه أقرب للحصول على نجاح معين في حياتهم.
وقد لفت الدكتور توماس زاز الانتباه إلى نوع من الأشخاص ذوي القابلية للألم أطلق عليهم (المتألمون Homo- dolorosus) وقد ميزهم بما يلي:
• المعاناة من ألم شديد غير محتمل ومزمن في غياب أي سبب عضوي له، وهذا يدل على أن الشخص المعاني يريد أن يلعب دور المريض.
• تتحقق هوية المريض ودوره الاجتماعي بوجود الألم والمعاناة بمثل ما تتحقق هوية الطبيب ودوره الاجتماعي بما يحصل عليه من مؤهلات طبية.
• عندما يحقق الشخص من هذا النوع دوره كمحترف في الألم يبدأ في ممارسة (الطريقة الألمية)، وهي طريقة للشعور والسلوك تتميز بوجود ألم غير مشخّص ومعاناة غير قابلة للتخفيف، إلا أنه يعطي معنى للحياة والقوة؛ للسيطرة على البيئة المحيطة.
ومن الطبيعي أن تكون مثل هذه المميزات تحدياً كبيراً لمهارات الطبيب المهنية التي ترتكز على القدرة على تشخيص الداء وتخفيف الألم والمعاناة.
وإذا فشل الطبيب في تحقيق الهدف المنشود، فقد يبدأ في التفكير في تشخصيات بعيدة للمرض، ما يؤدي إلى القيام بفحوصات وجراحات وعمليات جراحية متعددة قد لا تكون أساساً في مصلحة المريض، ولكنها تعمق اختياره الباطن للقيام بدور (المتألم أبداً). ومن ناحية أخرى فقد يقوم الطبيب برفض المريض وإيقافه عن مواصلة العلاج.
وحين تتحقق طريقة الحياة غير العادية (للمتألم الذاتي) فإنه لا يقوم بترك هذا الدور، بل يعمل على الحصول على مزيد من الاهتمام الطبي للمحافظة على طريقته المختارة.
ومن ثم فمن المتوقع أن يرفض مثل هؤلاء المرضى ما يعرض عليهم من وجوب التحويل للطبيب النفسي، حيث يقومون بالشكوى من ظهور أعراض عضوية جديدة، وعليه فإنهم كثيراً ما يثيرون مشاعر مضادة لهم وغير متعاطفة معهم من قبل الأقارب والأصدقاء، والأطباء المشرفين على علاجهم.
دور المريض!
وعلى الرغم من أن الأفكار السابقة ـ عن استثمار الألم للحصول على التخلص من التوترات العاطفية ـ تجد معارضة؛ لعدم ثبوتها علمياً، لكن الكثير من الأطباء يجدون قبولاً لها على ضوء تجاربهم الخاصة في هذا المجال.
حول ذلك يوضح د. ميشيل بوند في كتابه (الألم) أن عدد المرضى ذوي القابلية للألم ضئيل جداً، بالمقارنة بأعداد من يعانون من مشاكل الألم، ولذلك فإن على الأطباء أن يتنبهوا إلى علاقاتهم بالمرضى الذين يعانون من الألم المزمن، حيث يتفاوت الفهم بالنسبة لهذا العَرَض بمقدار العلاقات ونوعها.
وفي العادة يتبنى الشخص المريض ما يسمى (بدور المريض) وهو عبارة عن فهم يمنحه المجتمع للمريض لرفض المرض، ويتوقع المجتمع منه بذل كل جهده في التعاون مع الأطباء؛ للحصول على العلاج في أسرع وقت ممكن.
وأثناء فترة المرض يتحرر المريض من مسؤوليات الحياة بالبيت، والعمل لسد حاجاتهم العاطفية التي يحصلون عليها بمواصلة القيام بدور المريض. حيث لوحظ أن الأفراد من طبقات المجتمع الدنيا (خصوصاً أولئك الذين لم يحصلوا على قدر من التعليم) كثيراً ما يعبّرون عن مشاكلهم العاطفية بأعراض عضوية. ومن ثم فإن معرفة الطبيب بالعلاقة بين الظروف العاطفية والشكوى من التوترات البدنية تساعد على تقليل فرص الوقوع في تشخيص خاطئ ما يترتب عليه تدهور العلاقة بين المريض والطبيب.
الألم والعاطفة
دلت الإحصاءات في المستشفيات العامة أن ثلاثة أرباع المرضى الذين يلجؤون إلى العيادات الخارجية الباطنية يعانون من الألم، وثلث هؤلاء يتوقع أن يكونوا مضطربين عاطفياً أيضاً.
ومن إحصاءات الممارسين العموميين، نجد أن أكثر من نصف المرضى الذين يزورون العيادات يعانون من اضطرابات عاطفية، ومن بين هؤلاء نجد أن الثلث إلى النصف يشكو من ألم ما.
ويرتبط الألم بالعاطفة والمرض العضوي من ثلاثة وجوه:
• تؤدي الأمراض أو الإصابات البدنية المؤلمة إلى تغيرات عاطفية (مشاكل بدنية ـ نفسية).
• يكون الألم ناتجاً عن أمراض بدنية يرجع سببها واستمراريتها إلى عوامل نفسية بصفة رئيسة (اضطرابات نفسية ـ بدنية).
• يحدث الألم في حالات الاضطرابات العقلية على الرغم من عدم وجود مسببات عضوية له.
وتنتج التغيرات العاطفية لدى أولئك الذين يعانون من الألم من جرّاء الآثار البدنية والاجتماعية المترتبة على الاضطراب المسبب للألم، بالإضافة إلى المؤثرات الخاصة بشخصية المريض.
وتختلف آثار الألم الحاد قصير المدة عن تلك التي يسببها الألم المزمن، فيسبب الألم الحاد ارتفاعاً في مستوى القلق النفسي المتمثل في استعجال البحث عن أسبابه وعلاجه، كما يؤدي إلى ضعف في قوة تحمل المريض للمضايقات البسيطة ـ مثل الإزعاج وغيره من المثيرات الحسية، وعدم القدرة على التركيز ـ وإلى توتر في العلاقة بالآخرين.
أما المرض المزمن فمربوط بالقلق؛ لأن كثيراً من المصابين يخافون من المصير إن كان عجزاً أو موتاً أو مزيداً من المعاناة قبل الموت، وحين يوجد الألم في مثل هذه الحالات يزيد من شدة القلق، ولكن المريض يكون مهتماً أولاً بموضوع علاج الألم إن كان ممكناً، ففي بعض الأحيان تؤدي محاولات علاج الألم المزمن إلى نتائج جزئية، وفي أوقات أخرى يفشل العلاج تماماً ما يزيد من قلق المريض.
ويؤدي الألم المزمن إلى الانعزال عن الحياة الاجتماعية ومزيد من الانطوائية، هذا بالإضافة إلى أن كثيراً من هذه الأمراض المزمنة تسبب إعاقة للحركة ونوعاً من العجز، فهي بذلك تقلل فرص المريض في الاتصال بأهله وأصدقائه. ومن ثم تظهر على المريض تغيرات سلوكية من اهتمام زائد بما يعانيه من أعراض، وقلق دائم واكتئاب.
طرق لتخفيف الألم
تعارف الناس منذ قرون عديدة على أن الراحة ذات فائدة عظيمة في إزالة الألم، وتكون الراحة بتقليل العمل إما للجسم كله أو للجزء المصاب منه.
ومما نشر قديماً في أهمية الراحة لعلاج الألم كتاب بعنوان (محاضرات عن الراحة والألم) كتبه جراح إنجليزي يدعى جون هيلتون في عام 1863م.
ويمكن اعتبار الراحة تخفيفاً للمريض من التوترات الجسمية والعاطفية التي قد تسبب حدة الألم أو تضاعف منه.
ولذلك يعطي الأطباء المرضى فترات للراحة والنقاهة؛ من أجل الإسراع بالتئام الجروح، أو الشفاء في كثير من الأمراض المعدية وغيرها. وفي بعض الأحيان ينصحون بعطلة ترويح مخصصة للحصول على تخفيف التوتر العقلي من ضغوط العمل وخلافها من جوانب الحياة اليومية.
أما بالنسبة للطرق النفسية المستعملة في تخفيف الألم، فيمكن إجمالها في:
ـ العلاج التعضيدي: يعتمد على إصغاء المعالج لحديث المريض بتفهم واهتمام؛ لأن ذلك يشجع المريض على عرض مشكلاته وملابساته وقلقه، ويقوم المعالج بالتطمين والنصح، مستغلاً تجاربه في الحياة لمساعدة المريض في الوصول إلى فهم واضح لظروفه.
ويتضمن الالتزام بطريقة العلاج المساند: أن يقوم الطبيب من بداية المرض بتقديم شرح مبسط للمريض عن طبيعة مرضه وعلاجه وتوقعات النتيجة، ويكون صريحاً فيما يختص بالآثار الضارة للعلاج، مثل الألم بعد الجراح، وطرق تخفيفه وعلاجه.
ويجب أن نتذكر أن المرضى بالآلام المزمنة وأقاربهم يصبحون أكثر حساسية لأي عمل يصدر من قبل الطبيب أو الممرضة، أو أي أحد ذي صلة بعلاج المريض يستشف منه (حقيقة أو خطأ) الرفض للمريض.
ـ العلاج الإيحائي: يبنى هذا النوع من العلاج على استخدام الإيحاء المباشر في محاولة لحل مشكلات المريض وصراعاته، وأقوى أنواعه المستعملة ما يعرف بالتنويم.
ـ العلاج التحليلي: يتجه هذا النوع من العلاج إلى مساعدة المريض لتفهم معاني أعراضه، ويتضمن تحليل الصعوبات التي يعاني منها في حياته اليومية، مع تحليل مفصل لعلاقة المريض العاطفية تجاه المعالج؛ لأنها تعكس مشاعره وأفكاره المكتسبة من علاقاته بالآخرين. وعن طريق تحليل العلاقة بين المريض والمعالج والتغيرات التي تطرأ عليها مع الزمن تتضح أهمية الأحداث العاطفية السابقة بالنسبة للأعراض العضوية ذات الأصل النفسي، مثل الألم.
ـ العلاج الجماعي: تساعد هذه اللقاءات في دعم دور الطبيب في معالجة المريض خارج المجموعة، وذلك بجعل المريض إيجابياً في اختياره للأهداف الصحيحة في حياته؛ حتى يحصل على حياة مُرضية في عمله وأوقات فراغه وفي علاقاته الخاصة، كما يقلل التفكير الكثير في أنفسهم عن طريق الاتصال بالآخرين.
[SIZE=1]