أصحاب العبادات المظلمة
طارق حسن السقا
تحدث توفيق الحكيم مرارا وتكرارا في كتابه " مصر بين عهدين " عن شخصية الدكتور سعيد عن أحد الذين قابلهم أثناء زيارته لباريس في بدايات العشرينات من القرن الماضي. ولقد أفاض الحكيم وأطال في الحديث عن هذا الرجل . فمن هو الدكتور سعيد؟ وما حكايته ؟ وما علاقته بك وبي وبكل الناس من حولنا اليوم ؟
ذهب الدكتور سعيد إلى فرنسا لا للدراسة, ولكن للتمرن العلمي على الأبحاث البكتيريولوجية في معهد باستير . كان الرجل رائدا في تخصصه , مجدا في عمله وأبحاثه , محترما بين زملائه من علماء المعهد , إلى الحد الذي جعل إدارة المعهد تفاوضه لينضم إليهم بمرتب مغر , ولكن الرجل رفض الانسلاخ من بعثته , ومن الابتعاد عن خدمة بلاده .
بالإضافة إلى هذا, كان الدكتور سعيد متدينا . "دمغ الدين كل حياته , فلم يذق خمرا , ولم يلعب القمار , ولم يفارق القرآن , ولا أدخل معمله - والكلام للحكيم - إلا وأجد المصحف مفتوحا إلى جانب أنبوبة الاختبار. كان الدكتور سعيد لا يستطيع العيش طويلا بعيدا عن المساجد والمآذن . و ظل الدكتور على هذه الحالة إلى يوم وفاته , فلقد قضى اليوم السابق لوفاته كله في زيارة أولياء الله الصالحين , والصلاة في المساجد ثم توفي فجأة في اليوم التالي كما حكى عنه الحكيم .
ومع كل ذلك كان الدكتور- سعيد ذو المكانة العلمية المرموقة , والذي دمغ الدين كل حياته - متحررا فكريا : يغازل البنات , ويواعد الجميلات , وله العديد من العلاقات مع الحسناوات , وله العديد من المغامرات مع الفرنسيات : يواعد هذه , ويتلصص على تلك, ويراقب هذه من خلف نافذة غرفته , ويصف ما يراه من جمال وعري ومحاسن , وملابس شفافة لأصدقائه ( وبالطبع كان الحكيم واحدا منهم ) . وذات يوم ثارت ثورته لما نزل في أحد فنادق باريس ليلا , وفي الصباح دق الجرس طالبا الفطور , وهو يمنى نفسه بخادمة حسناء تدخل عليه , فإذا برجل عجوز بشوارب يدخل عليه بالفطور فصاح :" إخص على هذا الصباح الهباب ...رجل بشوارب اصطبح بوجهه في باريس" . وأخذ يحزم أمتعته وهو مصمم على مغادرة هذا الفندق( الفقري) . غير أن العجوز فهم مراده , وأخذ يهدئ من روعه , ويحدثه عن " زيزيت " التي تعمل في الطابق العلوي , والتي يمكن للعجوز - بحكم مسؤولياته - أن يجعلها تحت أمره فقط إذا ما قطع أحد أزرار قميصه , وأخذ يحدثه عن " جانيت " التي تعمل في الطابق الأول ويمكن أن تكون تحت أمره فقط إذا ما أصابت ملابسه بقعة مربى أو زبده, وحدثه عن " أنطوانيت " التي يمكن أن يرسلها له فقط إذا شعر أن جسمه (مدشدش) ويريد من يدلكه له فهذا عملها . وبالطبع تهللت أسارير وجه الدكتور الذي وضع في كف العجوز خمس فرنكات كانت كفيله بأن تجعل العجوز (يروق )على الدكتور الذي لم يكتف بزيزيت , وجانيت, وانطوانيت, ولكنه طمع في مديرة الفندق الحسناء ولجأ إلى حيلة – بالاشتراك مع العجوز – أتت بالمديرة الحسناء إلى غرفته .
نحن أمام شخصيه عجيبة الأطوار , رجل يشغل الدين كل حياته , والقرآن لا يفارقه, ومع ذلك فهولا يرى في النساء , ولا في تلك المغامرات النسائية , ولا في تلك العلاقات المشبوهة لا حراما ولا ضلالا. وبرغم علمه , وعقله , ومكانته العلمية , وتدينه إلا أن سلوك الدكتور سعيد كان متناقضا مع تدينه . وهذا هو الجرح الغائر الذي نعاني منه جميعا اليوم , وهذا ما يجب أن نجد في البحث له عن ضماد .
نفس القضية تعرض لها الفيلم المصري (كباريه ) الذي يعرض لحياة شريحة في المجتمع تعاني – كما كان الدكتور سعيد يعاني - من مشكلة الخلط بين الديني والدنيوي في الكثير من شئون حياتهم . فصاحب الكباريه «فؤاد» يداوم على شرب اللبن والعصائر، ويرفض تناول الخمر، ورغم ذلك يقتسم آخر الليل مع العاهرات من العاملات في الكباريه ما جمعن من نقود . وبينما كان يداوم على الاستماع إلى المنشد الديني الشيخ النقشبندي وهو يصدح بدعاء " مولاي إني ببابك " ،كان يتأفف من سماع عواء المطربين الشعبيين في صالة الكباريه بأغانيهم المبتذلة والسوقية . هذا الرجل كان يحرص على أداء مناسك العمرة كل عام , وفي الوقت الذي كان يتهيأ فيه لأداء فريضة العمرة ، كان يجبر بنات الليل «بوسي»على الجلوس مع زبائن الكباريه . و تتجسد قمة الازدواجية في الفيلم في شخصية «نهى» مضيفة الكباريه التي لا تتوقف عن استقطاب البنات , ولاعن الإيقاع بهن للعمل في الكباريه ، ولا عن الرقص طوال الليل في الكباريه من أجل هدف كبير كان يشغل بالها وتفكيرها ألا وهو تجميع الأموال اللازمة لتأمين فرصة أداء مناسك الحج لوالدتها !!
إنها حالة من الازدواجية الحادة سواء في حالة الدكتور سعيد , أوفي حالة أبطال فيلم (كباريه ), أو في حالتنا نحن. فمن منا لا يعيش هذه الازدواجية في حياته اليومية ( مع اختلاف الوسائل , والنسب , والدرجات) ؟ من منا لا يخلط بين الحق والباطل في عمله وفي يومه وفي ليله ؟ من منا لا تخلو حياته من جانب من جوانب هذا الخلط الزاعق بين الديني والدنيوي في شتى صورها ؟ إن هذا الجرح يدفعنا إلى أن نجتهد في وضع أيدينا على الأسباب التي تؤدي إلى مثل هذه الحالة من الازدواجية الصاخبة , أو إلى هذا الخلط بين الديني والدنيوي في واقعنا اليومي . فما هي الأسباب التي تؤدي إلى هذه الازدواجية الصاخبة في واقع حياة الناس ؟
للحديث بقيه,,,,,,
المصدر