دخان سيجارتي العاشرة يزيد من غلبة اللون الرمادي في المقهى القديم ..و همهمات الزبناء تضفي على الجو مسحة من الحزن السرمدي..
و صوت فيروز و هو يمارس طقوس الحب في الصيف و الشتاء يزيد من قتامة الجو..و يقربني أكثر إلى بيروت.
يصلني صوت بائع السمك مختلطا برائحة المحيط القريب و هو يلعن البر و البحر.. و المقهى القديم:
-"الزمن توقف في المقهى القديم منذ سنوات..".
يحملق فيه زميله الآخر بعيون حمراء و فم مفتوح دون أن يجيب:
يبدو أن الكأس الأخيرة..أوصلته إلى اليقين كالعادة..
صاحب المقهى رجل قصير القامة بشارب مضحك ..يذكرني بهتلر قبل انتحاره. تراه دائما وهو ينهر مستخدميه و يبتسم للزبناء الجدد...
يصلني الآن صوت الميكانيكي و هو يلعن صاحب المقهى, و لا أميز من كلامه سوى القليل:
-"زوجته تحكمه..و هو يحكم النادل..و النادل يحكم الكؤوس..و الكؤوس تحكم الرؤوس..و الرؤوس..".يقاطعه عزيز- أو السيد الفيلسوف- كما يلقب في المقهى القديم..لأنه درس الفلسفة..و بعد التخرج احترف الجلوس و لعب الورق..
-"هذا ما يسميه ماركس بالصراع الطبقي.."..و استغرق كعادته يحدث الميكانيكي عن ثورة تشي غيفارا و كاسترو..و التنين الأصفر..و أنجلز و اليوتوبيا الشيوعية..
والميكانيكي- كعادته- لا يفقه شيء...
يختفي صوت عزيز بين عشرات الثرثرات و الأصوات المفهومة و اللامفهومة..
و أعود إلى سيجارتي الأخيرة التي نسيت ترتيبها, كما نسيت عدد أيام الأسبوع و عدد النكبات و الانتصارات المقنعة و الغزوات المفبركة..
و عدد السنوات التي مرت و نحن تحت سطوة صاحب المقهى..
ارتشف ثمالة كأس الشاي..
و أغادر المقهى القديم دون وداع..
تاركا ورائي كل ما فيها -كما هو-..
بائع السمك و هو يلعن الجميع ..
زميله الذي قدم استقالته من عالم الاستيقاظ..
عزيز..الحالم بعالم أفضل..
الميكانيكي أو الفيلسوف الذي لا يدري أنه يدري..
أو أنه يوهم نفسه بذلك..
و صاحب المقهى..
صاحب الأمر و النهي..
و المقهى.
و سحابة الدخان تتبعني نحو الباب..