رمضان آخر تعيشه غزة تحت الحصار والانقسام، وكما سعت البلاد الإسلامية هذا العام إلى توحيد رؤية الهلال، فقد سعى أهل فلسطين (غزة والضفة) إلى تجاوز الحدود والسدود بتبادل التهاني في هذا الشهر الفضيل عبر بطاقات التهنئة الإلكترونية ورسائل الهواتف المحمولة، آملين أن تعمهم بركات هذا الشهر الكريم لتنتهيَ هذه المعاناة.
فهل تأتي الرياح بما تشتهي السفن؟ وهل تتوحد مظاهر رمضان بين الأشقاء على جانبي الوطن الواحد كما توحدت أمنياتهم وقلوبهم؟
بدايةً.. من غزة؛ حيث استعداد المجاهدين لرمضان، يقول بسام (جندي بإحدى الكتائب) إن سعادته برمضان هذا العام لا تُوصف؛ لأن التهدئةَ ستتيح لهم فرصةً أكبر للتفرغ للعبادة؛ فقد حرص كل قائد كتيبة على إنهاء جميع التدريبات قبل قدوم الشهر الكريم، وستُقام مسابقات بين الكتائب في ختم القرآن، وسيقوم الجميع بأداءِ صلاة التراويح بجزءٍ كاملٍ يوميًّا على الأقل مع الالتزام الكامل بجميع الصلوات في المسجد والأذكار والأوراد.
لكن بسام أكد أن هذا لا يعني التقليل من فترات الرباط؛ فاليهود ليس لهم عهد ولا ذمة، كما أن المجاهدين يعدون الرباط من أعظم الطاعات في رمضان، وعادةً ما يتسابقون على نيل الشهادة وهم صائمون؛ فالمرابط في رمضان "معزوز من الناس" والجميع يتنافس على تلبية احتياجاته. وعن قدرةِ المواطنين على شراء مستلزمات رمضان بعد عامين من الحصار تقول أماني (موظفة): "بالطبع الحال سيئ جدًّا، خاصةً بعدما أُنهكت جميع الأسر في توفير متطلبات المدارس التي فتحت أبوابها قبل أسبوع، إلا أننا أفضل من العام الماضي"!!، وعند سؤالها عن السبب ابتسمت قائلةً: "كما يقول المثل الشعبي "رب ضارة نافعة"؛ فقد أدَّى إضراب عدد من الموظفين المتآمرين مع سلطة رام الله إلى فصلهم من وظائفهم وتعيين آخرين بدلاً منهم، فأصبحت معظم الأسر لا تخلو من عائل، فمَن يعمل يتقاض راتبًا من غزة ومن يُضرِب فمكافأته عند رام الله"!!
إلا أن حال الموظفين يختلف عن العمال الذين تأثَّرت أوضاعهم المعيشية كثيرًا من طول الحصار؛ فهذا أبو إبراهيم يقول: "على الرغم من زيادةِ عدد الأسر المستفيدة من المساعدات هذا العام، والتي أصبحت أكثر تنظيمًا تحت رعاية حكومة الوحدة الوطنية، إلا أنها لا تكفي الحد الأدنى من الحياة الكريمة، خاصةً مع زيادة الأسعار"، مؤكدًا ضرورةَ فك الحصار لإيجاد حلٍّ جذري، وتابع أبو إبراهيم قائلاً: "أية مساعدات هذه التي تكفي لشراء علبة جبنة صفراء على سبيل المثال بعد أن أصبح سعرها 150 شيكلاً (220 جنيهًا مصريًّا تقريبًا)، وقد كانت في العام الماضي بـ100 شيكل؟!!".
لكن هذا لم يمنع حسام عبد الله من التفاؤل برمضان هذا العام كأفضل شهرٍ مرَّ على غزة؛ حيث قال: "استعددنا لرمضان هذا العام بـ3500 طالب ختموا كتاب الله عز وجل حفظًا وتجويدًا أثناء العطلة الصيفية؛ فغزة صائمة هذا العام قولاً وعملاً، بعد أن كانت تصوم قولاً فقط".
وتابع حسام حديثه عن فوائد الحصار قائلاً: "هناك دائمًا مِنَح من قلب المحن، ومسحة التدين الآن بدت واضحةً في غزة التي تستعد للعبادة باشتياق لا يقل عن شوقها لرفع الحصار؛ فعلى الرغم من آلامه إلا أنَّ له فوائدَ عديدة أهمها التمحيص، وإظهار مَن هو مع الله ومَن مع رغيف الخبر"!!
وعن مظاهر الاحتفال في شوارع وأسواق غزة تقول آمال عبد الرحمن (مدرسة 45 عامًا): "الكيان الصهيوني لا يمدنا إلا بالسلع التموينية وبكميات تقل كثيرًا عن احتياجاتنا؛ فهم يريدون لغزة ألا تحيا كما لا يريدون لها أن تموت".
أما عن السلع الرمضانية فتقول: "كنا نعتمد على مصر بشكلٍ كلي في هذا النوع من البضائع، أما الآن فهي قليلة جدًّا ونادرة، وإن وُجدت فثمنها غالِ جدًّا بثمن أرواح المواطنين التي تحصدها الأنفاق عندما يحاول أحدهم التسلل عبرها ليخفف من الحصار"!!، وتضيف: "ظننا أن الأمر سيختلف بعد سماح مصر بفتح المعبر لمدة يومين قبل رمضان، لكننا حتى الآن لم نَرَ شيئًا مختلفًا".
أما عن فانوس رمضان وتعليق الأضواء فتقول: "لا يوجد إلا عدد محدود جدًّا من الفوانيس من الحجم الصغير الذي كان يباع بـ 6 شيكلات (10 جنيهات) مسبقًا، لكن سعره الآن 7 دولارات (35 جنيهًا)، وأظن أنه بضاعة قديمة كانت في المخازن".
أما عن الأضواء فقد ابتسمت بحزن قائلةً: "إحنا لاقيين شمع ننور فيه بيوتنا لما تقطع الكهرباء عشان نروح نحط زينة؟!".
وعن أهم مشكلة سيواجهها قطاع غزة في رمضان أجمع المواطنون على أنها سوف تكون مشكلة الغاز؛ حيث اضطرت معظم سيارات القطاع إلى العمل بغاز الطبخ بدلاً من البنزين؛ مما سيؤدي إلى مشكلةٍ كبيرةٍ في رمضان، خاصةً مع تزايد الحاجة إلى خَبْز الكعك والحلويات الرمضانية.
حصار الضفة
وعلى الجانب الآخر من أرض الرباط، وعلى مسافةٍ أقرب من مسرى المصطفى صلى الله عليه وسلم، تختلف كثيرًا مظاهر الاستعداد لهذا الشهر الكريم؛ ففي حين تتزيَّن غزة بعباراتِ التهنئة واللافتات الدعوية التي تدعو إلى الفضيلة وزيادة العبادة في شهر رمضان، تحظر مساجد الضفة الاعتكاف، وفي حين تبدو غزة كخليةِ نحل أزيزها تلاوة القرآن ومجالس الذكر والدروس الدينية، تمنع حكومة رام الله التجمعات.
هذا ما اضطر إيمان أم علي (27 سنة) إلى أن تتفق مع صديقاتها على إقامة صلاة التراويح في البيت هذا العام بعد أن كانت تصطحبهن لإقامتها في مسجد الحي في السنوات السابقة، وتقول إيمان: "بالأمس أغلقت الأجهزة الأمنية قسم النساء في أكثر من مسجدٍ بدعوى أنها تُدَار من حماس، وهذه تُعدُّ جريمة ليس لها عقاب دون الاعتقال".
وعن صدقِ ما تقوله إيمان من إمكانية اعتقال نساء تقول فاطمة: "ليت الأمر يقف عند حدِّ اعتقال الفتاة بل وحتى ذويها!!، بل إنه يمتد إلى إثارةِ الأقاويل حول سمعتها وسلوكها في عملها وعند أسرة زوجها".
أما محمد عبد الفتاح (33 عامًا- مدرس) فقال: "بالطبع أنا لا أخشى كثيرًا على سمعتي مثل الأخوات، كما أن ما يمنعني ليس الاعتقال في حد ذاته؛ فنحن نعيش هنا في ظل ما يُشبه الدولة البوليسية؛ فالتقدم إلى أي عملٍ يحتاج إلى شهادة حسن سير وسلوك لا نحصل عليها إلا من المخابرات، وإذا تم اعتقالي على خلفية مثل هذه الأعمال- صلاة التراويح- فسيصبح حصولي على الشهادة من المستحيلات"!!.
وأضاف: "هل تصدقين أن افتتاح مركز تحفيظ قرآنٍ للأطفال يحتاج إلى موافقة المخابرات، كما يحتاج إلى هذه الشهادة التي لا يمكنك الحصول عليها؛ لأن مجرد تفكيرك في مثل هذا العمل هو دليل قطعي على سوء السير والسلوك؟!!".
وقد يختلف حال العم أبو الحسن (60 عامًا)، والذي تجاوز سن المعاش ولن يحتاج إلى شهادة حسن سير وسلوك، إلا أنه أيضًا لن يستطيع إحياء ليلة القدر في مسجد الحي هذا العام؛ لأنه لا يستطيع الخروج من بيته بعد صلاة العشاء؛ نظرًا للوضع الأمني والمداهمات التي تقوم بها قوات السلطة وقوات الاحتلال على التوالي!!
وعن الوضع الاقتصادي تقول هبة محمد: "إن حركةَ الأسواق تقل كثيرًا عن الماضي، والناس تشاهد وتسأل عن السعر ثم تذهب دون شراء، فما كان بـ2 أصبح بـ5، وما كان بـ7 تجاوز الـ10"، وتضيف: "طلبنا زيادةً في الرواتب لمواجهة هذا الغلاء، إلا أن سلطة رام الله رفضت ذلك، متعللةً بأنها تمر بضائقةٍ ماليةٍ، إلا أنها وعدت بزيادة مالية في هذا الشهر فقط، ونحن جميعًا نعوِّل عليها لشراء مستلزمات رمضان".
وتابعت: "كل هذا يمكن تحمله، أما ما لا يمكن تحمله فهو منع القائمين على الجمعيات الخيرية- التي تم إغلاقها بالطبع- من توزيع المساعدات على المحتاجين بحجة قيام الحكومة بهذه المهمة، ومن البديهي أن تقوم السلطة بتوزيعها على الموالين لها فقط".
وتساءلت: "ما علاقة أطفال جياع بهذه الحسابات؟!! وأي ولاء يًنتَظر من طفلٍ يُحرم من فرحة رمضان في حين ينعم أطفال الجيران بها؟!".
أما إيمان فتقول: "اعتادت أمي على شراء أشياء كثيرة من مستلزمات رمضان قبل بداية الشهر بفترةٍ كافيةٍ حتى يتلاشى ارتفاع الأسعار، إلا أني حتى اليوم لم أَرَ شيئًا من هذا".
لكن أم إيمان لم يشغل بالها كثيرًا عدم قدرتها على شراء هذه السلع؛ فقلبها مشغول بابنها الأسير في سجون السلطة، والذي مُنعت من زيارته حتى في شهر رمضان، ومما زاد من آلامها منعها أيضًا من الصلاة في الأقصى هذا العام بالرغم من تجاوزها السن المطلوب (45 سنة)، إلا أن سبب الرفض جاء لدواعٍ أمنية؛ مما جعلها تبكي حسرةً على تغير الحال وهي تذكر الأيام التي كانت تمتلئ فيها الشوارع بهجةً بقدوم رمضان، فتنطلق مكبِّرات الصوت من مسجد السوق بالدروس الدينية، وتتزين الدنيا بالعبارات الإيمانية؛ فهذا يكتب على بيته "أقبل رمضان.. فماذا أنت فاعل؟!" وذاك يذكر الناس بالله كاتبًا: "رمضان شهر الرحمة والغفران"، وتساءلت: "هل سيعود ذاك الزمان يومًا؟".