الأيام تمر، والليالي تكر، والأسابيع تنقضي، والشهور تنتهي... دار الزمان دورته؛ فأقبل رمضان، وجاء الصيام، ومَنْ مِنَ الناس لا يحب هذا الحبيب الغائب المنتظر؟.
لقد قدر الله سبحانه على خلقه حياة ثم مماتا، وكان من سننه في كونه قدوم وفوات، كما شاء الله بحكمته أن يطبع بني البشر على النقص والشهوات، ولم تقف حكمة الله عند هذا الحد؛ وإنما شرع العلي الحكيم لخلقه مواسم تعلوها النفحات؛ ليغفر الله بها الزلات، ويمحو بها السيئات، ويزيل بها العثرات، ويغسل بها العبد من السيئات.
ولذا جاء في الأثر: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا له، لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقوا بعدها أبدا".
ولعل موسم "رمضان" من أعظم هذه النفحات ففيه تصفد الشياطين، وفيه تفتح الجنان، وفيه تغفر الذنوب، وفيه تفتح أبواب السماء، وفيه يباهي الله بالصائمين الملائكة، وفيه.. وفيه.. وفيه..
ولكن: هل من الممكن أن يقال: "نوم الصائم عبادة"؟!
لقد شاع عند الناس مثل يقول: "نوم الظالم عبادة!" ولكن لا يسلم له، فالظالم ينام وهو مُصرٌّ على ظلمه. أما الصائم فهو ينام ليصحو لطاعة أخرى، فإذا تخلل النوم طاعتين، فلا شك أن النوم بينهما عبادة، لأنه عون على طاعة، ومساعد على خير.
وهنا أذكر أثرا عن حفصة بنت سرين عن أبي العالية قال: الصائم في عبادة ما لم يغتب أحدا، وإن كان نائما على فراشه. فكانت حفصة تقول يا حبذا عبادة وأنا نائمة على فراشي. (رواه عبد الرزاق في مصنفه 4/307)، وجاء عن أنس قال: الصائم في عبادة، وإن كان نائما في فراشه.
النائمون حتى الغروب
ولكن أمرا ينبغي التنبيه عليه، وهو: أن كثيرا من الناس لا ينتفع برمضان؛ لا بنهار رمضان، ولا بليل رمضان، وشاء أن يخالف سنن الله في خلقه وفطرته في كونه، إن من سنن الله في كونه أن الليل للراحة والسكن؛ فجعلوه للسهر والعبث، ومن فطرته في خلقه أن جعل النهار للعمل والكد، فجعلوه للنوم والراحة.
لقد قال الله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً" (الفرقان:47).
وقال: "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً" (النبأ:11)، لقد أبى هذا الصنف من الناس إلا أن يخالف سنن الله وفطرة الله تعالى، فهو لا يصحو إلا قبيل المغرب، أو بعد العصر، ولا ينام إلا قبيل الفجر، أو قبل الفجر؛ فهل هؤلاء يعد نومهم عبادة؟!
أحسب هنا الأمر مختلفا تماما، فهؤلاء فرطوا في حق الله، وضيعوا حقوقا كثيرة، وفاتتهم خيرات وفيرة، فلا أحسب أن نوم هؤلاء عبادة بأي حال من الأحوال.
الصحابة ورمضان
وقد أنصت الصحابة عليهم رضوان الله في رمضان لقول النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه". (أخرجه البخاري ومسلم).
ففطنوا للغنيمة التي جاءتهم، والفرصة التي سنحت لهم، والنفحة التي أهديت إليهم، فهذا عمر بن الخطاب في غير رمضان كان رضي الله عنه يصلي من الليل ما شاء الله حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، ثم يقول لهم الصلاة الصلاة.. ويتلو: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى" (طه:132).
وكان ابن عمر يقرأ هذه الآية: "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ" (الزمر:9).
وعن علقمة بن قيس قال: بتُّ مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ليلة فقام أول الليل ثم قام يصلي، فكان يقرأ قراءة الإمام في مسجد حيه يرتل ولا يراجع، يسمع من حوله ولا يرجع صوته، حتى لم يبق من الغلس إلا كما بين أذان المغرب إلى الانصراف منها ثم أوتر.
وفي حديث السائب بن زيد قال: كان القارئ يقرأ بالمئين- يعني بمئات الآيات- حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام قال: وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر.
مضت أشهر النوم
وهنا ينبغي أن نرفع شعار "مضت أشهر النوم"، "ولت ساعات الراحة"، "أدبرت أيام الدعة"؛ والسبب: أن شهر السهر في الطاعة قد جاء، وساعات التعب في لذة العبادة قد حضرت، وليالي القرب من الله قد أقبلت.
والناظر المتفحص لحال النبي، يرى أنه ما كان يعرف النوم في رمضان، وإنما كان جبريل يدارسه صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، وفي الصحيح كما تقول أمنا عائشة: "كان رسول الله إذا دخلت العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله".
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يختم القرآن كل يوم مرة، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، فكانوا يقرءون القرآن في الصلاة وفي غيرها، فكان للشافعي في رمضان ستون ختمة، يقرؤها في غير الصلاة، وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة.
وكان الزهري إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن.
يقول الحافظ ابن رجب موضحا سر اجتهادهم هذا : إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، والأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً لفضيلة الزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة.
ولهذا يلخص لنا شداد بن أوس حال القوم فيقول: كنا لا نعرف النوم في رمضان. وما أروع ما قاله ابن - كما يقول ابن القيم- في مدارج السالكين: "النوم يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة والكسل.
وأنفع النوم: ما كان عند شدة الحاجة إليه. ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره. ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه. وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه، وكثر ضرره، لاسيما نوم العصر والنوم أول النهار إلا لسهران.
ومن المكروه عندهم: النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس. فإنه وقت غنيمة. وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة، حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس.
فإنه أول النهار ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق، وحصول القسم، وحلول البركة. ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحصة. فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر.
قد مدت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام فما منكم إلا من دعي : "يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ" (الأحقاف:31).
ويا همم المؤمنين أسرعي.
فطوبى لمن أجاب فأصاب وويل لمن طرد عن الباب و ما دعي.