إلى البكاء أيها الأحباء
الدكتور علي بن عمر بادحدحولماذا البكاء؟ وما حاجتنا إليه؟
أظن أن الجواب على هذا السؤال لا ينفك عن ذهن كل مؤمن، ولا يغيب عن بال كل مسلم، ولكن الغفلة والنسيان، ولكن الشهوات والطغيان كثيرًا ما تحجب الحقائق وتقسي القلوب.
لماذا الحديث عن البكاء؟
للحديث عن البكاء أسباب أجملها فيما يلي:
أولاً: طغيان المادة والشهوات، فلقد أخذ البدن حظًّا أكثر من حقه طعامًا وشرابًا وتنعمًا وترفهًا، وكل ذلك يطغى ويضغط على حظ الروح من زادها الإيماني وقوتها الرباني.
ثانيًا: لأننا في عصر كثرت فيه المآسي وتعددت النكبات فَجَرَت دماء أهل الإيمان أنهارًا وارتفعت صرخاتهم استغاثة واستنجادًا ودعاء لله سبحانه وتعالى وطلبًا للفرج والنصر في بلاد الإسلام.
ثالثًا: كثرة ذنوبنا ومعاصينا حتى لم تَعُد لنا قدرة على إحصائها ولا معرفتها، ولم نَعُد نأبه بصغيرها لأنا نقع في كبيرها، وهذا أمر يدعو إلى أن يبكي الإنسان على نفسه، وأن يندب تقصيره في حق ربه.
رابعًا: لأن القلوب هي سر هذا الإنسان، ولأن الأرواح هي جوهره، فإذا أشرق القلب بالنور وإذا زكت الروح بالإيمان، ولا يغذي هذه الروح ويحيي القلب إلا ما كان من المصدر الذي جاءت منه هذه الروح، كما قال الله سبحانه وتعالى: "فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي".
خامسًا: لأن حبيبنا وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبكي، يقول ابن القيم عن بكاء النبي صلى الله عليه وسلم "لم يكن بشهيق ولا رفع صوت، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا، ويسمع لصدره أزيز وكان بكاؤه صلى الله عليه وسلم تارة رحمة للميت وتارة خوفًا لأمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية".
والبكاء من خشية الله سمة للعبد المؤمن وصفة من صفات الإيمان التي تدل على زيادته وعظمته وحياته في القلوب، فسجود المحراب ومناجاة الأسحار ودموع المناجاة، هي خاصية يتميز بها المؤمن عن غيره.
فالعبد لا يبكي إلا من خوف يسأل الله الأمن منه، أو من بلاء وفتنة يرجو من الله سبحانه وتعالى النجاة منها، أو من عجز وبلاء يرجو من الله سبحانه وتعالى أن يرفعه به.
ولذلك من رحمة الله سبحانه وتعالى بالعبد المؤمن أنه يبتليه حتى يلجأ إليه وحتى يتضرع إليه، وحتى يبكي بين يديه فيكون ذلك تكفيرًا لذنوبه وإعلاء لمنزلته، وزيادة لإيمانه وإحياء لقلبه.
ونحن في هذا الأيام إلا من رحم الله نفتقد إلى الخشوع لله والاطراح والبكاء بين يديه سبحانه، فقد كثر نقلنا للعلم وحفظنا، ولكن قلَّ خشوعنا وخوفنا منه سبحانه وتعالى، وما ذلك إلا لأن العلم لم يكن على النهج الأكمل؛ لأن العلم يورث العبد الخشية "إنما يخشى الله من عباده العلماء". ولذلك لما سُئل بعض السلف عن العالم أو سُئل عن أنه عالم فقال: "إنما العلم الخشية"، وقد وصف ابن القيم خشوع الإيمان الخشوع الصادق فقال: "هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمحبة والحياء". فإذا خشع القلب تبعه خشوع الجوارح لا محالة.
فالخشوع حقيقة إنما هو خشوع القلب؛ ولذا لما رأى ابن مسعود رجلاً مطأطئًا رقبته، منكسًا رأسه، فقال: "يا صاحب الرقبة ارفع رأسك إنما الخشوع خشوع القلب".
فليس المطلوب مظاهر جوفاء خالية من الصلة بالباطن، إنما المطلوب بإذن الله سبحانه وتعالى حياة في القلوب وخشية وخوفًا من الله سبحانه وتعالى في أعماق النفوس، تؤرق للإنسان ليله فلا يغمض له جفن، وتقض مضجعه فلا يطمئن له جنبه، فينبعث لطاعة الله سبحانه وتعالى وسؤاله والتضرع إليه دومًا بالليل والنهار، ويغلب ذلك عليه فترى جِدَّه أكثر من هزله، وبكاءه أكثر من ضحكه، وترى تعلقه بالآخرة أكثر بكثير من نظره وتعلقه بالدنيا، وهذا هو الهدي الإيماني الذي ورثه لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم.
موارد البكاء
المورد الأول: البكاء عند تلاوة القرآن الكريم
سماع الجبل
والله سبحانه وتعالى وصف كتابه وصفًا عجيبًا فقال جل وعلا: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون". ما في هذا القرآن من الوعد والوعيد ما فيه من التذكير والتخويف ما فيه من نعيم الجنة والشوق إليها، ما فيه من عذاب النار والخوف منها كاف بأن يدك الجبال دكًّا فيصير الجبل منها متصدعًا متفتتًا من خشية الله لما جاء في هذا القرآن العظيم فليبكي الإنسان على حاله حينما تتأثر الجلاميد الصم، وتتأثر الكائنات الجمادية التي ليس لها روح ولا حياة، وهو لا يتأثر.
حسبك حسبك
وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقرأ عليَّ القرآن" فقال ابن مسعود: أقرأ عليك وعليك نزل! فقال: اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري، فتلا ابن مسعود من أول النساء، حتى بلغ قول الله جل وعلا من سورة النساء: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا * يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا"، فقال صلى الله عليه وسلم: "حسبك حسبك"، قال ابن مسعود فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا عيناه تذرفان بالدموع. عاش مع الآيات وتصور هذا المشهد العظيم الذي تكون الخلائق كلها محشورة بين يدي الله سبحانه وتعالى، ناظرة إليه صلى الله عليه وسلم وهو شفيع الخلق يوم القيامة، فبكى عليه الصلاة والسلام لعظيم منَّة الله عليه ولعظيم تذكر هول ذلك اليوم وهول ذلك المطلع.
دويرية أبو بكر
وتأمل أصحابه رضوان الله عليهم فهذا أبو بكر رضي الله عنه تقول عنه عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله إن أبا بكر رجلٌ بكاء فإذا تلا القرآن بكى وبكى الناس لبكائه" الحديث. ومما أثر عنه لما كان في جوار رجلٍ من المشركين في مكة، كان يصلي في دويرية داره، يعني في داخل داره، فإذا تلا القرآن بكى فاجتمع النساء والصبيان والعبيد يبكون، فقال المشركون لهذا الرجل الذي أجار أبا بكر مر صاحبك أن لا يقرأ قرآنه فإنه يفسد علينا نساءنا وعبيدنا وإماءنا؛ لأنه كان لا يملك عبرته رضي الله عنه.
المورد الثاني: البكاء في خلوة الليل
خنين عمر
وهذا عمر رضي الله عنه رغم شدته في الحق، ورغم قوته في القيام بأمر الله جل وعلا، كان إذا ذُكّر بالله تذكر وإذا تليت عليه آيات الله سبحانه وتعالى يبكي وإذا قرأ القرآن يبكي حتى يسمع له خنين تحققًا بقول الله جل وعلا: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون"، فكان رضي الله عنه في بكائه عجيبًا؛ لأنه كان يجمع بين الشدة والقوة، في إحقاق الحق وإقامة العدل، والذلة والخضوع بين يدي الله؛ ولذلك كان يقول: "إذا نمت في الليل ضيعت نفسي، وإذا نمت في النهار ضيعت رعيتي"، فأسهر ليله وأتعب نهاره، وكان دائم التعلق بالله سبحانه وتعالى.
ومن أعجب ما ورد في البكاء ما رُوي عن علي رضي الله عنه إذ يقول في وصفه ضرار بن ضمرة الكناني: "فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، يميل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه، ثم يقول للدنيا: إليّ تغررت، إليّ تشوفت، هيهات هيهات غري غيري قد بتتك ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق" [حلية الأولياء: ج 1/ ص 44].
بلَل مواضع السجود
,
,
هذا البكاء في مدرسة الليل، بكاء ينبغي دائمًا أن يكون شعارًا للعبد المؤمن؛ لأنه بكاء صادق لله سبحانه وتعالى؛ لأنه ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، في شأن السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله "ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه".. ذكر الله خاليًا من الخلق خاليًا من الرغبة والرهبة فيما عند الناس، وحينئذ فاضت عيناه بالدمع السخين الخالص النابع من خشية الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك فقه أهل الإيمان هذا النهج وأحيوا ليلهم حتى يكون بكاءهم خالصًا لله سبحانه وتعالى يقول أبو سهل الصعلوكي وكان من الزهاد:
أنام على سهو وتبكي الحمائـم *** وليس لها جرم ومني الجرائم
كذبت لعمر الله لو كنت صادقًا *** لمـا سبقتني بالبكاء الحمائم
فبكاء الليل من أوسع الأبواب في البكاء؛ لأن فيه الخلوة ولأن فيه المناجاة ولأن فيه الندم والانكسار بين يدي الله عز وجل، ولأن فيه الصلاة والسجود لله، ولأن فيه تلاوة القرآن، كل واحد من هذه الأبواب التي ذكرناها باب من أبواب الخشية لله والبكاء له سبحانه وتعالى، كلها تجتمع في تلك الأوقات المباركة؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى في شأن وقت العبادة في وصف المتقين: "وبالأسحار هم يستغفرون".
في ذلك الوقت قبيل الفجر، كما ورد في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل القيام قيام داود ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه"، وكان لذلك قيام الليل هو الزاد الأول حينما كلف بالدعوة وكان فرضًا على أصحابه عامًا كاملاً في مكة، فكان هذا النبراس هو الذي لزموه وهو الذي أحيا قلوبهم وأجرى دموعهم وقوَّى إيمانهم، وانطلقوا بعد ذلك في نهارهم يعمِّرون الكون بأمر الله، ويركبون خيولهم جهادًا في سبيل الله، وصدقوا حينئذ ما عاهدوا الله عليه؛ لأنهم أخلصوا فيما بينهم وبين ربهم، وقيل للحسن البصري رحمة الله عليه: ما بال أهل الصلاح على وجوههم النور؟ قال: خلوا إلى ربهم فكساهم من نوره.
المورد الثالث: خشية الله عز وجل والخوف من عذابه:
ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الترمذي: "عينان لا تمسَّهما النار عينٌ بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله" هذه الخشية هي التي تجعل الإنسان يترك المعصية والشهوة وهو عليها قادر، لا يردها عن ذلك إلا خوف العذاب، ولا يرده عن ذلك إلا الحياء من الله سبحانه وتعالى، وقيل لبعض السلف ما علاج غض البصر أو ما علاج الغض عن المحرمات، قال: "علمك بأن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما حرم عليك".
المورد الرابع: الرحمة والشفقة
وهو مورد لا يعرفه أصحاب القلوب القاسية الطغاة المتجبرون الذين يفترون على عباد الله، والذين يزهقون الأرواح الذين يقتلون الصغار والكبار، الذين تبلدت أحاسيسهم وختم على قلوبهم، فلا تنزل من أعينهم قطرة ولا دمعة.
ولكن رسولنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم صاحب القلب الرحيم يشهد احتضار حفيدته بنت زينب رضي الله عنها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ونفسها كأنها شن تتقعقع، فبكى صلى الله عليه وسلم وذرفت عيناه رحمة وشفقة، وقال صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الله".
وكذلك بكى حزنًا في يوم أحد حينما رأى سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه وقد مُثِّل به، بل ورد أنه شهق عليه الصلاة والسلام من بكائه.
المورد الخامس: الخوف من الموت
وذلك حينما يكون العبد مسرفًا على نفسه في المعاصي، مقصِّرًا في الطاعات لله جل وعلا، ولقد كان من دأب السلف أنهم إذا رأوا شيئاً من الدنيا يذكرهم بالآخرة كان ذلك أسرع إلى تأثر قلوبهم.
وروي عن سفيان الثوري أنه مرَّ على حدَّاد فرأى شرَر النار فجعل يبكي وعاده الناس شهرًا في بيته؛ لأنه تذكر عذاب الله جل وعلا.
وحُكِي عن محمد بن واسع من السلف رضوان الله عليهم، أنه كان يبكي حتى يرحمه الناس، فذكر له في ذلك يعني لماذا هذا البكاء، فقال "يا أحَّبائي.. كيف لا يبكي من لا يدري ما أثبت في كتابه، ولا يدري ما يختم به كتابه".
فالمؤمنون الصادقون إذا عملوا الذنب اليسير الهين الذي لا يلتفت إليه، أجروا لذلك أدمعهم، ورفعوا لذلك أكفهم وأخضعوا جباههم ساجدين لله سبحانه وتعالى، وحركوا ألسنتهم استغفارًا لله جل وعلا، كما وصف الله المحسنين الذين يرجعون إلى الله سبحانه وتعالى: "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" إذا ألمّ بك الشيطان فوقعت في المعصية فسارع إلى بكاء الندم، والتوبة والاستغفار لله سبحانه وتعالى، وكذلك وصف الله المحسنين بأنهم: "إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم"، ولما سُئل سعيد بن جبير أيُّ الناس أعبد؟ أي من أعبد الناس؟، لم يقل أكثرهم صلاة ولا أكثرهم صومًا ولم يقل شيئًا عن العبادات والتطوعات، وإنما قال: "رجل اجترح ذنبًا فكلما ذكر ذنبه استغفر ربه"، وهكذا العبد المؤمن كما ورد من قول ابن مسعود رضي الله عنه: "إن المؤمن يرى الذنب كالجبل يوشك أن يقع عليه".
المورد السابع: البكاء على حال المسلمين
وهو بكاء يتقطع منه القلب وتفنى فيه العبرات، حينما يرى الإنسان المؤمن حال أمة محمد صلى الله عليه وسلم وما آلت عليه من الفرقة والضياع، وما انحدرت عليه من الذل والهوان، واعتداء الطغاة والمتجبرين، والصرخات والصيحات التي تستغيث بالله سبحانه وتعالى وتطلب النصرة من المؤمنين ولا تجد لها مجيبًا ولا سامعًا، مشاهد ينبغي أن تثير في نفس المؤمن الحزن والكمد، ولكنه ينبغي ألا يكون بكاءَ عجزٍ ويأس وإنما بكاء تأثُّر يدفع إلى العمل.
المورد الثامن: البكاء على فوات الطاعة
وهو البكاء على عدم القدرة على عمل الطاعات، وتذكر لنا كتب السيرة البكَّائين الذين جاءوا في أثناء الاستعداد لغزوة تبوك؛ ليحملهم النبي صلى الله عليه وسلم على البغال أو على الجمال أو على شيء، لأي شيء يذهبون وأي شيء جاءوا يطلبون يريدون الجهاد لتزهق أنفسهم في سبيل الله فاعتذر لهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمة الإسلام كلها في ذلك الوقت، لم تجد ما يحملون عليه، فهل قالوا هذا تيسير وفرج وهذا عذر لنا وفرحوا بهذا قال الله سبحانه وتعالى: "تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَنًا ألا يجدوا ما ينفقون".
لذلك قال أبو بكر أحمد بن إسحاق: "أدركت إمامين لم أرزق السماع منهما، أما أحدهما فأبو حاتم الرازي، والآخر محمد بن نصر المروزي، قال ما رأيت أحسن صلاة منه، وكان يبكي على فوات الخير".
وذلك مثل سفيان بن عيينة؛ إذْ أتاه سائل يعني يطلب منه أن يعطيه شيئًا فلم يكن معه ما يعطيه، فيبكى سفيان رحمه الله فقيل له: يا أبا محمد ما الذي أبكاك؟ قال: أي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل خيرًا فلا يصيبه.
وذات يوم مرض عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه فعاده بعض أصحابه فجعل يبكي فعوتب في ذلك فقال: "إني لا أبكي لأجل المرض؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم المرض كفَّارة، وإنما أبكي على حال فترة، ولم يصبني في حال اجتهاد، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا" [صحيح البخاري: ج 10/ ص 176]، فلما أعاقه المرض عن عبادة محدودة بكى على ما فاته من الأجر.
ذات يوم جاء فقراء الصحابة إلى للنبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس قد جعل الله لكم ما تتصدقون به..."، وذكر فضل التسبيح والتهليل وكذا، ثم بعد ذلك رجعوا فقالوا قد سمع إخواننا الأغنياء بما قلت لنا ففعلوا مثل ما فعلنا! كان القوم يتنافسون في الخير، ويحزنون حزنًا ويبكون بكاء مُرًّا على طاعة لا يقدر لهم فعلها.
ولما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بكت أم أيمن وعندها أبو بكر وعمر، فقالا لها: ما يبكيك أما تعلمين أنما عند الله خير لرسوله، قالت: إني لا أبكي وإني أعلم أنما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها.
المورد التاسع: البكاء من بذخ الدنيا
البكاء من خوف الدنيا أن تبسط على الإنسان أن تفتنه عن عبادة ربه وأن تشغله عن مزيد التعلق بالآخرة.
فقد بكى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حين أتي بطعام وكان صائمًا وفي بعض الروايات أن طعامه كان فيه أكثر من صنف فقال رضي الله عنه قُتِل مصعب بن عمير وهو خير منِّي فلم يوجد له ما يكفن به إلا بُرْدة إن غُطِّيَ بها رأسه بدت رجلاه، وإن غُطِّيَ بها رجلاه بدا رأسه، ثم أعطينا من الدنيا ما أعطينا، قد خشينا أن تكون عجلت لنا حسناتنا، ثم جعل يبكي رضي الله عنه حتى ترك الطعام.
من فضائل وفوائد البكاء
الفائدة الأولى: ظل البكاء
حيث يكون سببًا لدخول العبد في ظل الله يوم القيامة فيكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه.
الفائدة الثانية: قطرة محبوبة
فقطرة الدمع محبوبة لله سبحانه وتعالى، كما أخرج الإمام الترمذي في حديث حسنه عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس شيء أحب إلى الله سبحانه وتعالى من قطرتين وأثرين، قطرة دمع من خشية الله وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران فأثر في سبيل الله أي في الجهاد، وأثر في فريضة الله سبحانه وتعالى"؛ وذلك لأنها دليل العبودية والذلة بين يدي الله، والله سبحانه وتعالى أحبَّ أن يسأله عباده بل دعاهم لسؤاله ودعائه والتذلل بين يديه سبحانه وتعالى.
الفائدة الثالثة: منع من دخول النار
أن البكاء من أسباب النجاة من عذاب النار كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يلج النار رجلٌ بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم" رواه الإمام الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
من عجائب البكاء
وإذا كنا لا نبكي ولا نتأثر فإن الجمادات تتأثر وتبكي وتحنّ وذلك بإخبار نبينا صلى الله عليه وسلم، كما ورد أنه اهتز جبل أحد فقال: "أحد جبل يحبنا ونحبه"، وحنَّ إليه الجذع حتى سمع حنينه في المسجد حتى عمد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ووضع كفه عليه فسكن، وورد في الصحيح أن ناقته صلى الله عليه وسلم حنَّت إليه وذرف دمعها، ويقول الله سبحانه وتعالى في شأن الكافرين والجاحدين "فما بكت عليهم السماء والأرض" ذكر ابن كثير في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إذا مات ابن آدم بكى له موضعان موضع عمله في الأرض، وموضع مقعد عمله في السماء" فاستشهد واستنطق الأرض والسماء بالعمل الصالح والطاعة لله سبحانه وتعالى.
هذا هو البكاء وتلك هي موارده وفوائده، فهل نجعل لأنفسنا نصيبًا منه عسى أن يظلنا الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله. نسأل الله تعالى من فضله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.