لما كنت صبياً صغيراً , كنت أملك محصلة للنقود , عبارة عن " علبة " لحليب النيدو , أي علبة حديدية صغيرة أضع فيها بعض العملات المعدنية , عملة من فئة نصف وربع ليرة , دأبت على جمعها من هنا وهناك .
وكنت أؤمل شديد الأمل , أن هذه الأنصاف والأرباع من الليرات , سوف تتضخم في يوم ما , وتتراكم , وتصبح ثروة هائلة , لكي " أتجر " و " أبنّك " وأشتري ما أشاء من الألعاب والدراجات وأشرطة الكمبيوتر .
وقتها سيموت أبناء الحارة بغيظهم , وسيتأجج الكمد في دواخلهم , سوف أوغر صدورهم ضدي حينما يرونني تاجراً مرموقاً يتحكم فيهم كما يتحكّم الرئيس بمواطني بلدته , أو كما يتحكم المدرّس بطلاب فصله .
كلها كم قرش , ثم أمتلك السلطة الغاشمة على أبناء الحي , مرة واحدة , وإلى الأبد , هكذا الطموح وإلا .. فلا !
غير أن هذه " الفكرة " الرومنسية , دمرتها مرارة الواقع وقسوته العظيمة والجبارة والباطشة , إرادة الواقع , تلك الإرادة العمياء التي تملك عيني خفاش عجوز ..
فبعد مرور فترة زمنية , لا أعرف على نحو الدقة كم كانت , أردت أن أفتح المحصلة , لكي أقوم بحساب ثروتي من القروش .!
لكنني تفاجأت , حينما فتحت علبة النيدو , أن القروش تحوّلت من اللون الرمادي الناصع اللامع , إلى اللون البني الداكن .
كانت القروش قذرة جداً , مكسوّة بطبقة سميكة من الصدأ , طبقة ملعونة بسُمك بضعة مليمترات , أودت بكل أحلامي وأسقطت طموحي في الاستحواذ على العالم : ولم يكن العالم يعني لي , ساعتذاك , سوى الحي الصغير الذي أقطنه , والذي يحوي تحالفات كثيرة , وعداوات أكثر !
ووقتذاك , تملكني شعور شديد الحنق , والسخط , والغضب , شعور أخبرني بأن العالم حقير , ولا يستحق التعب والعناء أبداً . فقد قمت بالكفاح والنضال , على مدى شهور متواصلة , ليلاً ونهاراً , لجمع ما يمكنني جمعه من القروش , وبالنهاية ماذا أجد ؟ أجد أموالي وقد ذهبت أدراج الرياح , أجد مجهودي الخارق , يروح في خبر كان , ولعل , وليس !
في الغد ذهبت لأستاذ العلوم وأعطيته بعض العملات التي أصيبت بالصدأ , أخبرني أن هذا يحدث بفعل التأكسد , فالمعادن الحديدية تصاب بالصدأ بسبب الأوكسجين الذي يصيب سطح المعدن , وهي عملية كيميائية , تُحدث ضرراً في المعدن وتُفسده , وتحيل لونه إلى اللون القاتِم . سألت المدرس عن السبب , لماذا تتأكسد الأشياء ؟ قال لا أدري , ولا أحد يدري يا صغيري . شرعت أسأل , لماذا كان هذا , يا هذا ! لماذا على الأشياء أن تتغير , لماذا لا تثبت وفق مشيئتنا الغبية , لماذا لا نرسم حدود الكون بحرية ؟ ليت لي الخيار في أن أكون ثرياً , لأشتري المزيد من الألعاب .
وحين قفولي إلى البيت أخذت أفكر في التأكسُد , قمت بإسقاط مبدأ " التأكسُد " على كل ما أواجهه في حياتي اليومية , فالتأكسد لا يحدث فقط للحديد , بل جسم الإنسان يتأكسد عبر " الموت " الذي يفسد أجهزته الداخلية ويوقفها عن العمل والتحرّك . وجدت أن موت الحديد هو التأكسد , وأن تأكسُد الإنسان هو الموت .
رأيت أن كلمة " موت " لا معنى لها , إذ يفترض أن نقول , بدلاً من " مات " فلان , " تأكسد " فلان . فالتأكسد كلمة ألطف وقعاً على الآذان من الموت . وقل مثل ذلك عن التجارة , فالتأجر لا يخسر أمواله لكنها " تتأكسد " والمسلسلات المصرية التي تُعرض في التاسعة مساء ليست بايخة وثقيلة دم بل هي " مُتأكسدة " , أيضاً الحياة مملة وكريهة لأنها تبعث " التأكسد " في المخ والقلب ورويداً يجد الإنسان نفسه وقد غاص حتى نصفه في فخ " الأكسدة " .
ثم استبدلت حلم التجارة والثراء , بحلم آخر , أن أكون عالماً بيولوجياً يبحث عن أسرار التأكسُد , ويجلو ما خفي عن الأبصار والأنظار في هذا المجال !
وقد استنتجت بعض الحقائق , تفيد أن الحياة معدن كبير , يصيبه التأكسد ببطء لأسباب مجهولة تماماً وغامضة , أسباب عقولنا غير مهيأة لاستيعابها , ونحن العناصر الفاعلة في قلب هذا المعدن , أعني , وبعبارة أدق , نحن برمتنا , كائنات صدئة , تسعى لبعث الصدأ في كل مكان , ولا نكتفي بذلك , إننا نصنع الموت بوقاحة , لكن نحتج ونرفض ما تصنعه أيدينا , ونحاول أن نتبجح ونقول أن ثمة قوانين طبيعية , وثمة قضاء وقدر , وهي كلمات نضعها لنخفف من وقع الألم الذي يصيبنا كل حين , بسبب هذه الماكينة الهائلة التي تؤكسد كل شيء وتلتهم كل شيء لتجعل منه لا شيء . ماكينة الأوكسيد الكبرى , أقصد بها : الحياة !
كتبت أثنائها , وفقاً لمنطقي المتواضع ولهجتي العامية , وعقلي الصغير الذي يليق بطفل ساذج , ما معناه :
" إن التأكسد , هو الشيء في ذاته , وهو المسؤول عن كل شيء آخر يصدر عنه , فلا يصدر التأكسد إلا المُتأكسدات , وهي أيضاً , لا تقل تواضعاً وبساطة عن مصدرها هذا " .