في مثل هذا اليوم الحزين شاركنا العالم إحدى مآسينا وشهدها على الفضائيات .. فتحياتي للفضائيات وعذرا لمن آلمهم مناظر قد اعتدناها ..
تحياتي الأكيدة أسجلها للصحفي المصور زكريا أبو هربيد والذي يعمل بوكالة راماتان بقطاع غزة فهو من استطاع تسجيل المشهد ليوصله إلى العالم ويعيد إلى أذهانهم مشهد محمد الدرة الذي لم يفارق أرض فلسطين ..
كان أبو هربيد عائدا من بيت حانون في تصوير لمشهد سيارة تم استهداف من بداخلها وفي طريق عودته علم باستهداف سيارة أخرى في بيت لاهيا قد ذهب ضحية استهدافها ثلاثة مواطنين من عائلة الزعانين ..
وبينما كان وزميله خالد أبو سعدة في مستشفى العودة في الشمال جاءه اتصال هاتفي يخبره بأن هناك استهداف آخر في منطقة الواحة على شاطئ بحر السودانية بغزة ..
استقل الصحفيان سيارة إسعاف لينتقلوا معها إلى مكان الحدث لم يتمالك نفسه وهاله ما رأى وأجهش بالبكاء ولكن طبيعة عمله وصرخات هدى إليه تطالبه بتصوير والدها أوجبت عليه نقل مشاعره عبر الكاميرا إلى العالم بأسره ليشاركنا بضعا من فواجعنا ..
تلك الفاجعة التي هزت مشاعر العالم وأبكته على الطفلة هدى غالية التي كانت ترقد قرب جثة والدها في حالة يرثى لها بعد استشهاد والديها وخمسة من أشقائها إثر قصف إسرائيلي من البوارج الحربية للشاطئ الذي يعج بالمصطافين ..
كانت الطفلة هدى تصرخ يابا .. يابا .. فرسمت بصرخاتها تلك رمزا للحزن الفلسطيني ..
هل تستطيع هدى نسيان تلك اللحظة التي عاشتها بكل قسوتها في عصر يوم الجمعة 9/6/2006 وهي تشاهد والديها وإخوتها أشلاء ممزقين أمام عينيها .
ترى هل ننسى هدى وصرخاتها ؟ .. أم ننسى بأننا فقدنا في مثل تلك الأيام أكثر من أربعة عشر شهيدا من المدنيين وستة وثلاثون جريح من بينهم ثلاثة عشر طفلا في موجات قصف إسرائيلي من الطائرات الحربية الإسرائيلية وقد كان من بينهم اثنين أصاب صاروخ إسرائيلي منزلهما .. وثلاثة أطفال في غارة سابقة ..
ادعى الجانب الإسرائيلي بأن البوارج كانت تستهدف مجموعة من المجاهدين مطلقي الصواريخ وأعرب عن أسف الجيش الإسرائيلي إزاء الهجوم على أبرياء ..
وفي حديث للطفلة هدى قالت :
أنها تريد العيش بأمان ودونما خوف، وقالت بألم:" لا أريد أن تنطلق القذائف لتقتل الأطفال ...
وأكدت بأنها على يقين أن قذائف الاحتلال كانت مقصودة، وقالت:" لن أقبل اعتذارهم..أبداً لن أقبل اعتذارهم ".
وقالت تروي قصة ذلك اليوم الحزين :
إنها ذهبت هي وأفراد عائلتها للبحر بحثًا عن يوم ترفيهي يخفف من معاناتهم اليومية وروت: "وَعَدنا والدي أننا إذا نجحنا في امتحانات آخر العام الدراسي سيأخذنا إلى البحر لقضاء يوم كامل هناك".
وانتهى العام الدراسي، ونجحت هدى وباقي إخوانها، وجاءت لحظة الفرح، ولحظة تنفيذ الوعد، ولم تكن هدى وعائلتها التي يزيد عدد أفرادها على الـ14 فردًا يعلمون أن تلك النزهة العائلية ستتحول إلى مجزرة دموية وإلى لحظة فراق.
وفي صباح يوم الجمعة 9-6-2006 ارتدت هدى وإخوانها ملابسهم بسرعة متوجهين إلى شاطئ السودانية بمدينة غزة وقالت: "لم نشعر بالوقت ونحن نمرح بالأمواج.. أكلنا الذرة المسلوقة.. وبنينا بيوتا وقصورًا من الرمال"، وأضافت: كان "والدي حبيبي يحملني على كتفيه وفي ساعات النهار المتأخرة بدأت البوارج الإسرائيلية ترمي بقذائفها داخل البحر، وبدأ الناس بالهرب في سياراتهم".
وتتابع هدى: "أبي لم يكن معه سيارة.. طلب سيارة أجرة وأخذنا ننتظرها... آخر كلمات سمعتها من أبي كانت تطلب من السائق الإسراع.. حاولنا الابتعاد، ولكن القذيفة الـ3 أصابتنا مباشرة".
"أشلاء إخواني متناثرة ومقطعة.. أبي الحبيب جثة هامدة.. لم أستوعب ما حدث لعائلتي أخذت أصرخ وأركض هنا وهناك طالبة النجدة.. لم يَعُد لي أحد.. فقدت أغلب أفراد أسرتي"
أبي حبيبي.. أحبه كثيرًا.. كثيرًا.. كان حنونًا.. قبل أن نذهب إلى البحر قال لي تعالي يا هدى معي لنُطْعِم الحَمام فقد نتأخر ويجوع... وذهبنا ووضعنا الطعام للحمام.. أبي لن يتأخر بعد ذلك؛ لأنه لن يعود".
وتعقيبا على ما حدث في ذلك اليوم قال الصحفي زكريا أبو هربيد:
كنت أجهش بالبكاء، وبالكاد تمكنت من السيطرة على مشاعري، التي نقلتها الكاميرا حول هذه الصور التي هزتـني، وهـزت العالم بأسره... بت لا أستطيع مشاهدة صور الطفلة هدى مرة أخرى، لم أعد أمتلك الشجاعة التي امتلكتها لحظة التـصويـر... أعـتـذر إلى هدى أشد الاعـتذار، كان عـليّ، ربما، أن ألقي الكاميرا للمساعدة في نقل الجثامين، لكن عزائي الوحيد أنني سعيت إلى نقل بـشاعة جـريمة الاحتـلال إلى العـالم بأسره، وبأن الطواقم الطبية كانت تقوم بواجبها على أكمل وجه... لو لم أقم بتصوير هدى وجثامين أسرتها لبقي الخبر في شـريـط الأنـباء، ولمرت الجريمة كغـيـرها، من دون أن تـحـدث أثـراً لدى الجميع... سعيت إلى فضح الاحتلال وجرائمه البشعة، وهذا واجبنا كصحافيين فلسطينيين .
وبعد أن فقدت هدى أباها، أصبح لها والدان أعلنا عن كفالتها هما رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، فبعد ساعات قلائل من استماع ملايين البشر في العالم لصرخات هدى على شاطئ غزة بادر هنية مساء الجمعة 9-6-2006 إلى كفالة الطفلة هدى، وقام بزيارتها وأفراد عائلتها الجرحى في المستشفى.
ومساء السبت 10-6-2006 أعلن عباس كذلك كفالته للفتاة هدى غالية، حيث أصدر قرارًا تبنى بموجبه الطفلة، وتعهد برعايتها على نفقته الخاصة، واستقبل عباس في مقر الرئاسة هدى وقال في تصريحات للصحفيين: "إن ما وقع لها ولأسرتها جريمة ضد الإنسانية والبشرية وضد المدنيين الأبرياء".
المشاهد التي تناقلها تلفزيون فلسطين على الهواء مباشرة في ذلك اليوم ستبقى راسخة في ذاكرة الفلسطينيين وأصحاب الضمائر الحية في العالم خاصة أطفال غزة الذين تكونت لديهم عقدة نفسية من البحر ..
ماتبقى من الرحلة والدرة المسلوقة ..
ولازالت الآلاف من أتراب هدى يستصرخ العالم العربي والاسلامي علهم من سباتهم يستيقظون وعليهم يردون ولكن لا يصل مسامعهم منهم سوى كلمة إنا لله وإنا إليه راجعون ..
م ن ق و ل